العلماء أصبحوا غرضًا للموت، وهذا أكبر دليل على أسباب نزع العلم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولو أنني أتيت بكل من جلس إليه وقرأ عليه من العامة لضاق الموسع.
[الباب الخامس: في سعة علمه وورعه في قضائه وفتياه]
أما علمه واطلاعه على نصوص الوحيين فهو البحر الخضم الذي لا ساحل له، وكان لا يحتاج إلى مراجعة كتبه ولا تفتيشها في القضاء والفتيا بل علمه في صدره لا في قمطره، وقد شاهدت من تقريراته وتفسيره للجمل ما يفيد ويسكت كل متكلم ويقف عندها كل مستفيد، وكان يحب الاختصار ويجيب جوابًا مختصرًا ويفيد فائدة حسنة، ولا يثاره للاختصار كان قليل الكلام، ويا ليت شيخنا ألّف مؤلفات تفيد الأمة وتقتبس منها العلماء فلا تموت بموته، وكان فقيهًا أصوليًا محدثًا لغويًا فرضيًا نحويًا، وذا معرفة بعلم التوحيد، ويحامي على دين الله وشرعه على قدر طاقته، ولا يتسامح بشيء، ويحب ذكر الخلاف الذي بين العلماء في مسائل العلم، وقد سألته مرةً عمن صلى وعليه نجاسة لم يعلم بها إلا بعد الصلاة؟ فأجابني بالروايتين، وكان إذا أفتى بمسألة فإنه يأتي بأدلتها حتى كان لم يكن بالباب غيرها، ويحب الإصلاح بين الناس، ويتحرى العدل في القضاء، ويرحم الفقير، ويلطف فيمن لا يحسن أن يخاصم، وربما أقام وكيلًا عمن لا يحسن إقامة الحجة إذا رأى خصمه جدليًا، وتقنع الأنفس بقضائه، أضف إلى ذلك أنه كان بصيرًا في أمر دينه، ضليعًا قويًا لا يقعقع له بالشنان، وإذا وقع عليه وقف لأحد أوصية فإنه يحتفظ بذلك ويبرئ ذمته عن المشتبهات، فيا ليت شعري من يقوم بهذه الخصال، وأنى وهيهات كلا فلا والله لا يسد مقامه فئة من الناس، وله غيرة وطنية وحمية عربية تأبى له أن يضام موظفوه الذين أقامهم في الأعمال.
[الباب السادس: في عبادته ونسكه وتلاوته]
لما كان هذا الحبر النحرير قد أعطاه الله حظًا وافرًا من العلم كان متقيدًا