فلمَّا خلا القصرُ من الحشيش، ظَهر من بعضِ ثقوبِ القَصر حيَّةٌ هائلةٌ، وضربته ضربةً أشرف بها على الهلاك، فتَنبَّه -حيثُ لَم ينفعْه التنبُّهُ- أن الحشيشَ كان من خاصيته دَفعُ هذه الحيةِ المُهلكة، وكان لأبيه بالوصيةِ بالحشيش غرضان:
أحدهما: انتفاعُ الولدِ برائحته، وذلك قد أدركه الولدُ بعقله.
والثانى: اندفاعُ الحيَّاتِ المُهلِكاتِ برائحته، وذلك مما قَصُرَتْ عن دَرَكِه بصيرةُ الولد، فاغتَرَّ الولدُ بما عنده من العلم، وظن أنه لا سِرَّ وراءَ معلومِه ومعقولِه كما قال تعالى:{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}[النجم: ٣٠].
والمغرورُ من اغتُرَّ بعقله، فظنَّ أن ما هو مُنتَفٍ عن علمِه فهو مُنتَفٍ في نفسِه .. اهـ.
وما من شكٍّ في أن آراءَ المِلَل وكلَّ ما فيها من الأوضاع ليس سبيلُها أن يُمتحَنَ بالآراءِ والرويَّةِ والعقولِ الإنسية؛ لأنَّها أرفعُ رُتبةً منها، إذ كانت مأخوذةً من وحيٍ إلهي؛ لأنَّ فيها أسرارًا إلهيةً تَضعُفُ عن إدراكِها العقولُ الإنسيةُ ولا تبلغُها.
وأيضًا: فإن الإنسانَ إنما سبيلُه أن تُفيدَه المِللُ بالوحي ما شأنُه ألاَّ يُدرِكَه بعقلِه وما يَخورُ عقلُه عنه، وإلاَّ فلا معنى للوحي، ولا فائدةَ إذا كان إنما يفيدُ الإنسانَ ما كان يعلمُه، وما يمكنُ إذا تأمَّله أن يُدركَه بعقله، ولو كان كذلك لَوُكِلَ الناسُ إلى عقولهم، ولَمَا كانت بهم حاجةٌ إلى نبوَّةٍ ولا إلى