ولا يَعيشُ إلاَّ على غِذاءٍ من الموت، كأنَّه كان مِن قبلُ دودةً في قبر، ثم نَفَخَه الله إنسانًا، يجعله فيما يبلو به من الخلْق، ويضربُ الحياةَ به ضَرْبَ انحلالٍ وبِلى وتَعَفُّن.
ومَن تراهُ قد سَخِر به القَدَرُ أشدَّ سخرية قط، فضَغْطة في قالبٍ من قوالبِ الحياة المصنوعة، فإذا هو في تصاريفِ الدنيا كاتب مُرشد متنصِّح، يَنْفث دُخانَ قلبه الأسود، ويعملُ كما تعملُ الأعاصير على إهداء الوجوه والأعين والأنفاس صُحُفًا مُنَشرَّةً مِن غُبار الأرض، إنْ لمْ تكنُ مَرَضًا فأذًى، وإن لم تكن أذًى فضِيق، وإن لم تكن ضِيقًا فلن تكون شيئًا مما يُساغ أَوْ يُقبَل أوْ يُحَبُّ، على أنك ترى أصحابَنا لا يتحاملون على شيءٍ ما يتحاملون على القرآن الكريم، فهم يخصُّونه بمكاره العلم كُلِّها ويَجفَون عنه أشدَّ جفاء" (١).
° شانئو محمد - صلى الله عليه وسلم - هم شانئو القرآن الكريم الذي نزل على قلبه، فأراد المُجرمون أن يَحصُروه في المساجد تلاوةً، وهجروه تحاكمًا، وأنِفوا من تشريعه، وأرادوا فَصْلَ الدين عن دنيا الناس وسياستهم .. وهم واللهِ الجهالُ الذين لا يعلمون قَدْرَ كلام الله الذي سمَّاه الله "نورًا"، وسمَّاه "رُوحًا"، وسمَّاه "شفاء"، و"فضلاً"، و"رحمة" .. كلامُ الله الذي "يجري في الخواطر كما تصعدُ في الشجرِ قَطَراتُ الماء، ويتَصل بالرُّوح، فإنما يَمدُّ لها بسببٍ إلى السماء، وإنه لسِحْر؛ إذْ هو ألحاظٌ لم تَعْهَدْ كلْم أحداقَها، وثمراتٌ لم تَنبُتْ في قلم أوْراقُها، ونورٌ عليه رَوْنقُ الماء، فكأنما اشتعلت به الغيومُ، وماء يتلألأ كالنور، فكأنما عُصِر من النُّجوم.
(١) "إعجاز القرآن" للرافعي (٩ - ١٢) - دار الكتاب العربي.