الأقاليمُ وتُسَاسُ الممالكُ .. والقلمُ لسانُ الضمير، يُناجيه بما استتر عن الأسماع، فيَنسُجُ حُلَلَ المعاني على القِرطاس، فتعودُ أحسنَ مِنَ الوَشْي المرقوم، وُيودِعُها حِكمهً فتصير بوادرَ الفهوم .. والأقلامُ نظيرٌ للأفهام، وكما أن اللسانَ بريدُ القلب، فالقلمُ بريد اللسان، وتولُّدُ الحروفِ المسموعة عن اللسان كتولُّد الحروفِ المكتوبة عن القلم، والقلمُ بريدُ القلب ورسولُه وترجمانُه ولسانُه الصامت.
والمقسَمُ عليه بالقلم والكتابةِ في هذه السورة تنزيهُ نبيِّه ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - عمَّا يقولُ فيه أعداؤه، وهو قوله تعالى:{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم: ٢]، وأنت إذا طابقْتَ بين هذا القَسَم والمقسَمِ به وجدتَهَ دَالاًّ علَيه أظهرَ دلالةٍ وأبْيَنها، فإنَّ ما سَطَّر الكاتبُ بالقلم من أنواع العلوم التي يتلقَّاها البشرُ بعضُهم عن بعضٍ لا تصدرُ عن مجنون، ولا تصدرُ إلاَّ من عقلٍ وافرٍ، فكيف يَصدرُ ما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مِن هذا الكتابِ- الذي هو في أعلى درجات العلوم-؟ بل العلوم التي تَضمَّنها ليس في قوى البشر الإِتيانُ بها، ولا سيَّما مِن أُمِّيٍّ لا يقرأُ كتابًا ولا يَخُطُّه بيمينه، مع كونه في أعلى الفصاحة، سليمًا من الاختلاف، بَرِيًّا من التناقض، يَستحيلُ من العقلاء كلِّهم لو اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ أن يأتوا بمثله، ولو كانوا في عقل رَجُلٍ واحدٍ منهم، فكيف يتأتَّى ذلك من مجنونٍ لا عقلَ له يُميِّزُ به ما عَسى كثيرٌ من الحيوانِ أن يُميِّزه، وهل هذا إلاَّ مِن أقبحِ البُهتانِ وأظهرِ الإِفك؟!.
فتأمَّلْ شهادةَ هذا المقسَمِ به للمقسَم عليه ودلالتَه عليه أتمَّ دلالة، ولو أنَّ رجلاً أنشأ رسالةً واحدةً بديعةً منتظمةَ الأول والآخر، متساويةَ الأجزاءِ يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، أو قال قصيدةً كذلك، أوْ صَنَّف كتابًا كذلك، لشهد