له العقلاءُ بالعقل، ولما استجاز أحدٌ رَمْيَه بالجنون مع إمكان -بل وقوع- معارضتها ومشاكلتها والإتيانِ بمثلها أو أحسنِ منها، فكيف يرمَى بالجنون مَن أَتَى بما عَجَزتِ العقلاءُ كلُّهم قاطبةً عن معارضته ومماثلته، وعرَّفهمِ من الحق ما لا تهتدي عقولُهم إليه، بحيث أذعنت له عقولُ العقلاء، وخَضعت له ألبابُ الأولياء، وتلاشت في جَنب ما جاء به بحيث لم يَسَعْها إلاَّ التسليم له والانقيادُ والإذعان، طائعةً مختارةً، وهي ترى عقولَها أشدَّ فقرًا وحاجةً إلى ما جاء به، ولا كمالَ لها إلاَّ بما جاء به؟ فهو الذي كمَّل عقولَها كما يَكمُلُ الطفل برَضاع الثدي، ولهذا فإنَّ أتباعَه أعقلُ الخلق على الإطلاق، وهذه مؤلَّفاتهم وكُتبُهم في الفنون، إذا وازَنْتَ بينها وبين مؤلفاتِ مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها، ويكفي في عقولهم أنهم عَمَّروا الدنيا بالعلم والعدل، والقلوبَ بالإيمان والتقوى، فكيف يكونُ مَتْبوعُهم مجنونًا وهذا حالُ كتابِه وهَديه وسِيرته وحالُ أتباعه؟!! وهذا إنما حَصَل له ولأتباعه بنعمةِ الله عليه وعليهم، فنفى عنه الجنونَ بنعمته عليه.
إن هذه الصفةَ المفتراةَ لا تجتمع مع نعمةِ الله على عبدٍ نَسَبه الله إليه وقرَّبه واصطفاه.
إن العَجَبَ ليأخذ كلَّ دارسٍ لسيرةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قومه من مَقولتهم هذه عنه، وهم الذين عَلِموا منه رَجاحةَ العقل حتى حَكَّموه بينهم في رَفع الحَجَرِ الأسود قبل النبوَّة بأعوامٍ كثيرة، وهم الذين لقَّبوه بالأمين.
إن الإِنسانَ ليأخذُه العَجَبُ أن يَبلغَ الغيظُ بالناس إلى الحدِّ الذي يَدفعُ مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القَوْلةَ وغيرَها عن هذا النبي الرفيع الكريم - صلى الله عليه وسلم -، المشهورِ بينهم برجاحةِ العقل وبالخُلُق القويم، ولكنَّ الحقدَ يُعمي