وصيته وحفر قبره واستعداده للآخرة فكان من قديم، ثم انه جلس للزوار من أحبائه في الديوان، وفي عاشر ذي القعدة اشتد به الألم وعجز عن النزول والصعود فلزم الفرش في غرفة، وكان في خلال ذلك مديمًا على تلاوة القرآن وعبادة ربه، حريصًا على الطهارة والنظافة، ولازمه بعض إخواني فكان يدعو له من يتفقد أضلاعه خشية أن يكون مرضه بذات الجنب فكواه بعض أهل المعرفة على جنبه فلم يفد شيئًا، ثم دعي إليه آخر فكواه في بطنه ولم يفد شيئًا، وكان يتجلد ويظهر القوة، غير أن كية الأخير أحدث له ألمًا شديدًا فاشتد أنينه لذلك، وكان لا يعرف بعده عواده، لكنه مع ما يقاسيه يلهج بحمد ربه ويثني عليه ويكثر الاستغفار والتوبة، فلما كان في ليلة سابع عشر ذي القعدة حصل له ضجر شديد وانكسف باله، وفي صباحها وجه إلى القبلة وبدت به علامات الموت وسكراته، نسأل الله تعالى أن يثبتنا على قوله الثابت في الحياة وفي الآخرة، ولقد شدد عليه في النزع، وما كان ليتخلى من التسبيح والذكر حتى في أضيق الحالات، وكان ينطق خفوتًا بصوت ضعيف:
يريد لأخذ الزاد في وقت مهلةٍ ... دقائق تحصى وهنَّ قلائل
على ذكر رب الخلق قد مات محركًا ... شفاها له كيما تجاب المسائل
وما الدهر إلا هكذا فانتبه له ... منايا تجيء كالطارقات تنازل
فلما كان في الساعة الرابعة انتقل إلى رحمة مولاه وخرج من الدنيا مقلًا متقللًا مخفًا منها، فرحمة الله تعالى عليه، ونسأل الله له الغفران، ثم إنه جهز وصلى عليه في المسجد الجامع في بريدة بعد صلاة الظهر، وحزن عليه المسلمون وبكوا لذلك وانتحبوا، وحمل إلى ضريحه في المقبرة الجنوبية ووضع في قبره الذي اختار أن يكون إلى جانب قبر والده، وكان لم يخلف عقبًا لأنه كان عقيمًا.
ولقد أصيب به المسلمون وحزن لفراقه المؤمنون ورثاه بعض الأدباء، وهذه قلتها لما فدحنا كصيبته ورزئنا بفقده قدس الله روحه وأسكنه الجنة بفضله ورحمته:
تبارك مولانا فيقضي ويحكم ... له الخلق والتدبير والله أرحم