كل مهبط ومنخفض ومرتفع تمثل غابات عظيمة تتقي بها الذئاب والكلاب والثعالب حتى تبدت لنا أعلام القرية حيث نمر بخب القصباء ولما أن وصلنا إلى صاحبنا فيها إذ هو بمنظر عجيب وحالة يرثى لها قد اسودت ثيابه من أوساخ الحيوانات حافي القدمين قد تصدعتا من البرد والشوك ومن صدمات الحجارة وفوق رأسه قلنسوة من وبر الإبل والله لو غسلت يومًا كاملًا بالصابون والماء لما ذهبت أوساخها، فرحب بنا وذهب بنا إلى مجلس القهوة ولما أن دخلنا ذلك المجلس وجدنا حيطانه وسقفه قد اسودت من طول ما تلاقيه من دخان كرب النخل واخثاء البقر والإبل فجلسنا وكنت ألاحظ حبلين مربوطين كانا بأذنيه أظن أنه يشد بهما القلنسوة على رأسه لثقلها فقدم لنا رطبًا شهيًا أمام القهوة وحوالينا هناك حجر منحوت كالإناء الكبير مربعًا يسع مائة وسبعين لترًا من الماء قد وضع في المجلس فكنا نأكل ونلقي النوى في ذلك الإناء ويقول نخمر للبهائم فتأكله فلا يضع شيء جزاكم الله خيرًا من النوى فعجبت لتلك الحالة هذا وأنا في جهد عظيم مما أعانيه من عاقبة الركوب على الحمار بحيث أن قدمي والساقين قد تأثرت من حالة الركوب الأمر الذي عاد بالمشقة لا بالنزهة والفرجة وكانت الأرض يسعى فيها أنواع القراد الذي ثبت به المواشي قال الأعشى ميمون بن قيس الشاعر الجاهلي أبو بصير:
ذريني لك الويلات أتى الغوانيا ... متى كنت زراعًا أسوق السوانيا
سأوصي بصيرًا إن دنوت من البلى ... وكل امرئ يومًا سيصبح فانيا
بأن لا تدان الود من متباعد ... ولا تنأ إن أمسى بقربك راضيا
وإن بشر يومًا أحال بوجهه ... عليك فحل عنه وإن كان دانيا
وقوله بصيرًا يريد ابنه لأنه كان أبا بصير والمقصود أن السواني متعارف بها في قديم الزمان، وقوله لا تدان الود إلى آخره فيه من الحكم أن من تباعد عنك لا ينبغي لك أن تطلب وده بل تدعه وقربه كما قال الشافعي رحمه الله: