درجة أنهم يثقون بهم أعظم من ثقتهم بأولادهم وبني جنسهم، وكنت أظن أن الأولاد وبني الجنس أبوا أن يقوموا بالأعمال، أو يكون من باب الامتحان، فإنك تجد الابن أو البنين يعملون لدى الناس براتب ضئيل، ويطلب أولياء أمورهم أن يعملوا عندهم برواتب مضاعفة، ولكنهم يأبون ذلك، وتضرب لهم الأمثال "كن كأم موسى عليه السلام ترضع ابنها وتأخذ جرتها"، فلا يجدون آذانًا صاغية، فكان صاحب الدكان أو المحطة كأجنبي، فإذا جاء من وسط النهار أو منتصف الليل بعد نومه الضحى، أو ضياع الوقت إلى نصف الليل إذا بالعامل قد بقي في الدرج له ما يزعم أنه ما اكتسب، فيأخذ مقتنعًا قليلًا كان أو كثيرًا، فينشأ عن ذلك خيانة كبيرة، فقد يكون العامل الأجنبي خائنًا فينتهب ما يشاء من النقود جاعلًا لها في موضع لا يعلمها سيده، فقد قيل: لإنسان أحذر عاملك، فقال: وما أخشى إذا كنت أفتشه كلما أتيه فألحوا عليه فوجدوه يستصحب مصحفًا كبيرًا لا يتخلى عنه كلما لم يكن يعمل فأخذه، فلما فتشه إذا بين أوراق المصحف أوراق النقود الرفيعة أمهات خمسمائة فما دون، وقيل: الأخر احترز من عاملك، فذكر من ثقته به وأمانته فلما ألحوا عليه فتشوا عليه خفية فإذا بمطبقة مشقوقة من أعلاها على قدر سقوط النقود، فحملها إلى بيته، وبعدما كسر غلفتها وإذا فيها اثنا عشر ألف ريال، فلما كان في منتصف الليل أتى بقفل جديد وخلع الأول وركبه، فلما أن كان في الصباح وجاء ليباشر العامل العمر إذا بالقفل مغيرًا فذهب إلى سيده يقول: يا عمي سرقنا، فناوله مرتبه وقال: يا بني اذهب في أمان الله فقد قلت المصالح فسقط في يده وخجل، وفرَّ من بين يديه، فلما كان من الغد وخرج يطلبه وجده قد حلق لحيته الكثيفة التي يربيها ليخدع بها الناس، فكلمه قائلًا: يا عبد الرحمن أين لحيتك؟ فأجاب ذهبت مع المطبقة، ولولا أنه كان لك والدة تدعوا من آخر الليل في حفظ مالك لذهب، وهكذا فعل العمال الأجانب، وكان أبو مسلم الخراساني الذي انتزع الخلافة من بني أمية يقول في أبيات له: