الشوارع طالبًا ما يمسك الرمق ويسد الخلة، فكيف الفقراء الضعاف مع أن لدى وزرائه ورؤساء ديوانه المال الذي يكفيه هو وجنوده فلو أخذ منهم لما وقع عليه اللوم لأنهم لم يغتنوا إلا منه ولم يربحوا إلا باسمه.
ولما قلت المرتبات على الجند بدأ يقترض من التجار ثم لما أقرضوا ولم يوفوا ديونهم أبوا أن يقرضوا، ولما لم يجد الجند ما يسد به حاجته قاموا ينهبون كل ما يجدونه أمامهم ثم وجهوا قوتهم إلى محال الناس الخالية من السكان فكسروها وأخذوا أخشابها مما تحتويه من سقف وجدر وأرض وباعوها حتى خربوا محلات تبلغ قيمتها عشرين ألف جنيه وبعد ما نفد ما لدى الجند ولم يروا حيلة يقدرون عليها شرعوا يشحذون فتراهم في الشوارع زرافات ووحدانًا، ثم طالبوا ولاة أمورهم بمرتبهم فلم يلبوا فصاحوا وناحوا فلم يجابوا، فلما ضاقت صدورهم توجهوا بسلاحهم إلى دار الملك علي وبدءوا يطلقون الرصاص ليرهبوه وذلك بعد ما اضطر لبيع سيفه وملبوساته لتأمين نفقة بيته فخاف الملك ونزل إليهم ووعدهم لمدة أسبوع ولكنه لم يف فثار الجند من الجبهة الحربية في ١٣ جمادى الأولى ودخلوا البلدة وجالوا في الأسواق يطلقون الرصاص فهاجت الأهالي وماجت فبين فار ومختبئ وبين واقف يشاهد ما وصلت إليه الحالة، ثم دخلوا المسجد وأغلقوا الأبواب وأخرجوا البنادق من المنافذ فأتاهم وزير الحربية تحسين باشا الفقير فهددوه بالقتل فتوسطت قناصل الدول في المسألة وأخيرًا أتى إليهم الملك علي وأرضاهم على أن يسافروا إلى بلادهم فسافروا.
فسبحان القادر الذي له الأمر كله وله الحكم كله وبيده تدابير الأشياء، وهذه والله حالة يعجب لها غير أن الأمور مرهونة لأوقاتها ولو أنهم إذ وصلوا إلى تلك المشقة خرجوا وسلموا للمتغلب إذ لا محيد لهم عن ذلك لاستراحوا، غير أن الله وهو الحكيم في أمره وخلقه يرينا ذلك ويسمعنا لنعتبر ونعترف له بالوحدانية في التدبير، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر: ٢]، هذا والجنود النجدية قابعة في مكانها تدافع وتناضل غير وجلة ولا مشاغبة راضية بما يفعله ولاة أمرها.