للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عبَّاس عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عبَّاس قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ غُلَامًا للعبَّاس بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ، وَأَسْلَمْتُ وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ، وَيَكْرَهُ خِلَافَهُمْ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ.

وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ

تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ فَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ - وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف منهم رَجُلٌ إِلَّا بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلًا - فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزًّا، قَالَ وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا وَكُنْتُ أَعْمَلُ الْأَقْدَاحَ أَنْحِتُهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَجَالِسٌ فِيهَا أَنْحِتُ أَقْدَاحِي، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةٌ، وَقَدْ سرَّنا مَا جَاءَنَا مِنَ الْخَبَرِ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بَشَرٍّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ قَالَ النَّاس: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ - وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ - ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ.

قَالَ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَلُمَّ إِلَيَّ فَعِنْدَكَ لَعَمْرِي الْخَبَرُ، قَالَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ، فقال: يا ابن أَخِي أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟ قَالَ وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْمَ فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وَايْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهِ مَا تُلِيقُ (١) شَيْئًا وَلَا يقوم لها شئ.

قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجر بِيَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ وَاللَّهِ الْمَلَائِكَةُ.

قَالَ فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً، قَالَ وَثَاوَرْتُهُ (٢) فَاحْتَمَلَنِي وَضَرَبَ بِي الْأَرْضَ ثم برك علي يضربني - وكان رَجُلًا ضَعِيفًا - فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً فبلغت فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ أَسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّدُهُ، فَقَامَ مُوَلِّيًا ذَلِيلًا فَوَاللَّهِ مَا عَاشَ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ بِالْعَدَسَةِ (٣) فَقَتَلَتْهُ.

زَادَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَلَقَدْ تَرَكَهُ ابْنَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَلَاثًا مَا دَفَنَاهُ حَتَّى أَنْتَنَ.

وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّقِي هَذِهِ الْعَدَسَةَ كَمَا تَتَّقِي الطَّاعُونَ حتَّى قَالَ لهم رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: وَيْحَكُمَا أَلَا تَسْتَحِيَانِ إِنَّ أَبَاكُمَا قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ لَا تَدْفِنَانِهِ؟ فقالا إنا نخشى عدوة هَذِهِ الْقُرْحَةِ، فَقَالَ: انْطَلِقَا فَأَنَا أُعِينُكُمَا عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا غَسَّلُوهُ إِلَّا قَذْفًا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ مَا يَدْنُونَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلُوهُ إلى أعلا مَكَّةَ فَأَسْنَدُوهُ إِلَى جِدَارٍ ثُمَّ رَضَمُوا عَلَيْهِ بِالْحِجَارَةِ.

[قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تمرُّ عَلَى مَكَانِ أَبِي لهب هذا إلا تسترت بثوبها حتى تجوزه] (٤) .

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ قَالَ: نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: لا


(١) ما تليق: ما تبقي.
(٢) ثاورته: ثبت له.
(٣) العدسة: قرحة قاتلة كالطاعون.
(٤) ما بين المعكوفين، سقط من الاصل وابن هشام واستدركت تتمة للخبر من دلائل البيهقي ج ٣ / ١٤٦.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>