للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى الْمَنْجَنِيقِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَتَوَقَّفَ أَهَّلُ الشَّامِ عَنِ الرَّمْيِ وَالْمُحَاصَرَةِ فَخَطَبَهُمُ الْحَجَّاجُ فَقَالَ: وَيْحَكُمُ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ النَّارَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَتَأْكُلَ قُرْبَانَهُمْ إِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ؟ فَلَوْلَا أَنَّ عَمَلَكُمْ مَقْبُولٌ مَا نَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، فَعَادُوا إِلَى الْمُحَاصَرَةِ.

وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ وقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ وخبيب ابنا عبد الله بن الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ فَأَمَّنَهُمَا، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ فَشَكَا إِلَيْهَا خِذْلَانَ النَّاسِ لَهُ، وَخُرُوجَهُمْ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرُ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا شِئْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَتَدْعُو إِلَى حَقٍّ فَاصْبِرْ عَلَيْهِ فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُكَ، وَلَا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ يَلْعَبْ بها غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا فَلَبِئْسَ الْعَبْدَ أَنْتَ، أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى حَقٍّ فَمَا وَهَنَ الدِّينُ وَإِلَى كَمْ خلودك فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ.

فَدَنَا مِنْهَا فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ إِلَّا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرْمَتُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ فَزِدْتِينِي بَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فانظري يا إماه فإني مقتول في يَوْمِي هَذَا فَلَا يَشْتَدُّ حُزْنُكِ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلَا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ قَطُّ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَغْدُرْ فِي أَمَانٍ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ وَلَا مُعَاهَدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ظُلْمٌ عَنْ عَامِلٍ فَرَضِيتُهُ بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يكن عندي آثر من رضى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، اللَّهُمَّ أَنْتِ أَعْلَمُ بِي مِنِّي وَمِنْ غَيْرِي، وَلَكِنِّي أَقُولُ ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي، فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ إِنْ يَكُونَ عَزَائِي فِيكَ حَسَنًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي أَوْ تَقَدَّمْتُكَ، فَفِي نَفْسِي اخْرُجْ يَا بُنَيَّ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ، فَقَالَ جَزَاكِ اللَّهُ يَا أُمَّهْ خَيْرًا فلا تدعي الدعاء قبل وبعد.

فقالت: لا أدعه أبداً لمن قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ فَلَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ، ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ وَذَلِكَ النَّحِيبِ وَالظَّمَأِ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ

وَبِي، اللَّهم إنِّي قَدْ سَلَّمْتُهُ لِأَمْرِكَ فِيهِ وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ فَقَابِلْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِثَوَابِ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ.

ثُمَّ أَخَذَتْهُ إِلَيْهَا فَاحْتَضَنَتْهُ لِتُوَدِّعَهُ وَاعْتَنَقَهَا لِيُوَدِّعَهَا - وَكَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ فِي آخِرِ عُمْرِهَا - فَوَجَدَتْهُ لَابِسًا دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ ما هذا لباس من يريد ما نريد مِنَ الشَّهَادَةِ! ! فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ إِنَّمَا لَبِسْتُهُ لِأُطَيِّبَ خَاطِرَكِ وَأُسَكِّنَ قَلْبَكِ بِهِ، فَقَالَتْ: لَا يا بني ولكن


يا بن الزبير طالما عصيكا * وطالما عنيتنا إليكا لتجزين بالذي أتيكا وفيه ص ١٢٤: أنَّ أهل الشَّام جعلوا يرتجزون ويقولون: وذكر الشعر كما في الاصل، وكان ذلك في حصار الكعبة سنة أربع وستين في حصار حصين بن نمير أيَّام يزيد بن معاوية.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>