ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف. وكان يحب التقلل من الدنيا لأجل خفة الحساب. وقال إبراهيم: قال رجل لأحمد: هذا العلم تعلمته لله؟ فقال له أحمد: هذا شرط شديد ولكن حبب إلي شئ فجمعته. وفي رواية أنه قال: أما لله فعزيز، ولكن حبب إلي شئ فجمعته.
وروى البيهقي أن رجلا جاء إلى الإمام أحمد فقال: إن أمي زمنة مقعدة منذ عشرين سنة، وقد بعثتني إليك لتدعو لها، فكأنه غضب من ذلك وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها. ثم دعا الله ﷿ لها. فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب فخرجت إليه على رجليها وقالت: قد وهبني الله العافية. وروي أن سائلا سأل فأعطاه الإمام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال: هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها، ما تساوي درهما. فأبى فرقاه إلى خمسين درهما وهو يأبى وقال: إني أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها. ثم قال البيهقي ﵀:
[ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل]
في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة، والاخبار المأثورة، وبلغه ما أوصى به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، وألحق به محبيه فيما نال من كرامة الله تعالى إن شاء الله من غير بلية وبالله التوفيق والعصمة.
قال الله تعالى:(بسم الله الرحمن الرحيم ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذي صدقوا وليعلمن الكاذبين)[العنكبوت: ١ - ٣] وقال الله تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)[لقمان: ١٧] في سواها في معنى ما كتبنا. وقد روى الإمام أحمد الممتحن في مسنده قائلا فيه: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عاصم بن بهدلة سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: سألت رسول الله ﷺ: أي الناس أشد بلاء؟ فقال:" الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الله الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، وما يزال البلاء (١) بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ". وقد روى مسلم في صحيحه قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس. قال قال رسول الله ﷺ: " ثلاثة من كن فيه فقد وجد
(١) في المسند ١/ ١٧٤: فما تزال البلايا. وانظر ١/ ١٨٠ - ١٨٥.