للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيها أغارت البجة (١) على جيش مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَتِ الْبُجَّةُ لَا يغزون المسلمين قبل ذلك، لِهُدْنَةٍ كَانَتْ لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَقَضُوا الْهُدْنَةَ وصرحوا بالخلاف.

وَالْبُجَةُ طَائِفَةٌ مِنْ سُودَانِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَذَا النوبة وشنون وزغرير ويكسوم وأمم كثيرة لا يعلمهم إلا الله.

وَفِي بِلَادِ هَؤُلَاءِ مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حِمْلٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَادِنِ (٢) ، فَلَمَّا كَانَتْ دَوْلَةُ الْمُتَوَكِّلِ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً، فَكَتَبَ نَائِبُ مِصْرَ - وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَاذَغِيسِيُّ مَوْلَى الْهَادِي وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِقَوْصَرَةَ - بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ، فَغَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَشَاوَرَ فِي أَمْرِ الْبُجَةِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ قَوْمٌ أَهْلُ إِبِلٍ وَبَادِيَةٍ، وَإِنَّ بِلَادَهُمْ بَعِيدَةٌ وَمُعْطِشَةٌ، وَيَحْتَاجُ الْجَيْشُ الذَّاهِبُونَ إِلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّدُوا لِمُقَامِهِمْ بِهَا طَعَامًا وَمَاءً، فَصَدَّهُ ذَلِكَ عَنِ الْبَعْثِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِ الصعيد، ويخشى أهل مصر على أولادهم مِنْهُمْ، فَجَهَّزَ لِحَرْبِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمُّيَّ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ نِيَابَةَ تِلْكَ الْبِلَادِ كُلِّهَا الْمُتَاخِمَةِ لِأَرْضِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى عمَّال مِصْرَ أَنْ يعينوه بكل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فتخلص وتخلص مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الَّذِينَ انْضَافُوا إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ حَتَّى دَخَلَ بِلَادَهُمْ فِي عِشْرِينَ ألف فارس وراجل، وحمل معه الطعام الأدام فِي مَرَاكِبَ سَبْعَةٍ، وَأَمَرَ الَّذِينَ هُمْ بِهَا أن يلجوا بها في البحر فيوافوه بِهَا إِذَا تَوَسَّطَ بِلَادَ الْبُجَةِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ بِلَادَهُمْ وَجَاوَزَ مَعَادِنَهُمْ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْبُجَةِ - وَاسْمُهُ عَلِي بَابَا - فِي جمعٍ عظيمٍ أَضْعَافِ مَنْ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيِّ، وَهُمْ قَوْمٌ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فجعل الملك يطاول المسلمين لَعَلَّهُ تَنْفَدُ أَزْوَادُهُمْ فَيَأْخُذُونَهُمْ بِالْأَيْدِي، فَلَمَّا نَفِدَ ما عند المسلمين طمع فيهم السودان فيسر

اللَّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِوُصُولِ تِلْكَ الْمَرَاكِبِ وَفِيهَا مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَالزَّيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يحتاجون إليه شئ كَثِيرٌ جِدًّا فَقَسَّمَهُ الْأَمِيرُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ، فَيَئِسَ السُّودَانُ مِنْ هَلَاكِ الْمُسْلِمِينَ جُوعًا فشرعوا في التأهب لقتال المسلمين، ومركبهم الإبل شَبِيهَةٍ بِالْهُجُنِ زَعِرَةٍ جِدًّا كَثِيرَةِ النِّفَارِ، لَا تَكَادُ تَرَى شَيْئًا وَلَا تَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا جَفَلَتْ مِنْهُ.

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحَرْبِ عَمَدَ أمير المسلمين إِلَى جَمِيعِ الْأَجْرَاسِ الَّتِي مَعَهُمْ فِي الْجَيْشِ فجعلها في رقاب الخيول، فَلَمَّا كَانَتِ الْوَقْعَةُ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ حَمْلَةَ رَجُلٍ واحد، فنفرت بهم إِبِلُهُمْ مِنْ أَصْوَاتِ تِلْكَ الْأَجْرَاسِ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ من شاؤوا، لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَا يَعْلَمُ عَدَدَ من قتلوا منهم إلا الله عزوجل.

ثم أصبحوا وقد اجتمعوا رجالة فكبسهم الْقُمِّيُّ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَقَتَلَ عَامَّةَ من بقي منهم وأخذ ملكهم بِالْأَمَانِ، وَأَدَّى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِمْلِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ أَسِيرًا إِلَى الْخَلِيفَةِ.

وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ عَلَى بِلَادِهِ كَمَا كَانَ، وَجَعَلَ إِلَى ابْنِ الْقُمِّيِّ أَمْرَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَالنَّظَرَ في أمرها ولله الحمد والمنة.


(١) في ابن الاثير ٧ / ٧٧: البجاة، في كل المواضع.
(٢) في الطبري ١١ / ٥٢: أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى، وفي ابن الاثير ٧ / ٧٧: نحو الخمس.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>