ثم إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكبا ظاهرا للناس، وإنما معه خادمان وراكب دار، وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا؟ فقيل له التأذين، فترجل عن مركوبه وسعى ماشيا، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع، ويجلس قريبا من الامام ويستمع الخطبة، ثم أصلح له المطبق فكان يمشي فيه إلى الجمعة، وركب في الثاني والعشرين من شعبان ركوبا ظاهرا للناس عامة، ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء والمحاويج، إعانة لهم على الصيام، وتقوية لهم على القيام. وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت الظاهر من دار الخلافة إلى التربة من الرصافة، وكان يوما مشهودا، وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد صدقات كثيرة وإنعاما جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد، على يدي محيي الدين بن الجوزي. وذكر ابن الأثير أنه كانت زلزلة عظيمة في هذه السنة، هدمت شيئا كثيرا من القرى والقلاع ببلادهم، وذكر أنه ذبح شاة ببلدهم فوجد لحمها مرا حتى رأسها وأكارعها [ومعاليقها وجميع أجزائها](١).
وممن توفي فيها من الأعيان بعد الخليفة الظاهر كما تقدم:
[الجمال المصري]
يونس بن بدران بن فيروز جمال الدين المصري، قاضي القضاة في هذا الحين، اشتغل وحصل وبرع واختصر كتاب " الام " للامام الشافعي، وله كتاب مطول في الفرائض، وولي تدريس الأمينية بعد التقي صالح الضرير، الذي قتل نفسه، ولاه إياه الوزير صفي الدين بن شكر، وكان معتنيا بأمره ثم ولي وكالة بيت المال بدمشق، وترسل إلى الملوك والخلفاء عن صاحب دمشق، ثم ولاه المعظم قضاء القضاة بدمشق بعد عزله الزكي بن الزكي، وولاه تدريس العادلية الكبيرة، حين كمل بناؤها فكان أول من درس بها وحضره الأعيان كما ذكرنا. وكان يقول أولا درسا في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره، ويقول درس الفقه بعد التفسير، وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتمادا حسنا، وهو أنه كان يجلس في كل يوم جمعة بكرة ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في إيوان العادلية جميع شهود البلد، ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده فأدوا على الحاكم وثبت ذلك سريعا، وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر إلى الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب، وربما مكث حتى يصلي العشاء أيضا، وكان كثير المذاكرة للعلم كثير الاشتغال حسن الطريقة، لم ينقم عليه أنه أخذ شيئا لاحد. قال أبو شامة: وإنما كان ينقم عليه أنه كان يشير على بعض الورثة بمصالحة بيت المال، وأنه استناب ولده التاج محمدا ولم يكن مرضى الطريقة، وأما هو فكان عفيفا في نفسه نزها مهيبا. قال أبو شامة: وكان يدعي أنه قرشي شيبي