* (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) * [البقرة: ٢٥٨] قِيلَ: محمَّد صلَّى الله عليه وسلم أتاه الكذَّاب بِالْبَعْثِ، أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، بِعَظْمٍ بَالٍ فَفَرَكَهُ وَقَالَ: * (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) * [يس: ٧٨] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبُرْهَانَ السَّاطع * (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) * [يس: ٧٩] فَانْصَرَفَ مَبْهُوتًا بِبُرْهَانِ نبوَّته * قُلْتُ: وَهَذَا أقطع للحجَّة، وهو استدلاله للمعاد بِالْبَدَاءَةِ، فَالَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِمْ كَمَا قال: * (أو ليس الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) * [يس: ٨١] أَيْ يُعِيدُهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: * (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) * [الأحقاف: ٣٣] وَقَالَ: * (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) * [الروم: ٢٧] هَذَا وَأَمْرُ الْمَعَادِ نَظَرِيٌّ لَا فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، فأمَّا الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ربِّه فإنَّه مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ، فإنَّ وُجُودَ الصَّانع مَذْكُورٌ فِي الْفِطَرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَفْطُورٌ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا مَنْ تغيَّرت فِطْرَتُهُ، فَيَصِيرُ نَظَرِيًّا عِنْدَهُ، وَبَعْضُ المتكلِّمين يَجْعَلُ وُجُودَ الصَّانع مِنْ بَابِ النَّظر لَا الضَّروريات، وَعَلَى كلِّ تَقْدِيرٍ فَدَعْوَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يحيى الموتى، لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يكذِّبه بِعَقْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَلْزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ بِالْإِتْيَانِ بالشَّمس مِنَ الْمَغْرِبِ إِنْ كَانَ كَمَا ادَّعى * (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) * [البقرة: ٢٥٨] وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكُرَ مَعَ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سلَّط مُحَمَّدًا عَلَى هَذَا الْمُعَانِدِ لمَّا بَارَزَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَتَلَهُ بِيَدِهِ الكريمة، طعنه بحربة فأصاب ترقوته فتردَّى عن فرسه مراراً، فقالوا له: ويحك مالك؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إنَّ بِي لمَّا لَوْ كَانَ بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ: أَلَمْ يَقُلْ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ؟ وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عليَّ لقتلني - وكان هذا لعنه الله أعدَّ فرساً وحربةً ليقتل بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فَكَانَ كَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ، * ثمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: فإنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كسَّر أَصْنَامَ قَوْمِهِ غَضَبًا لِلَّهِ، قِيلَ: فإنَّ محمداً صلى الله عليه وسلَّم كسَّر ثلثمائة وستِّين صنماً، قد ألزمها الشَّيطان بالرَّصاص وَالنُّحَاسِ، فَكَانَ كلَّما دَنَا مِنْهَا بِمِخْصَرَتِهِ تَهْوِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يمسَّها، وَيَقُولُ: * (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقا) * [الاسراء: ٨١] فَتَسَاقَطُ لِوُجُوهِهَا، ثمَّ أَمَرَ بهنَّ فَأُخْرِجْنَ إِلَى الميل، وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَجْلَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي أوَّل دُخُولِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ بِأَسَانِيدِهِ وَطُرُقِهِ مِنَ الصِّحاح وَغَيْرِهَا، بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ * وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السِّير أنَّ الأصنام تساقطت أيضاً لمولده الْكَرِيمِ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَقْوَى فِي الْمُعْجِزِ مِنْ مُبَاشَرَةِ كَسْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَارَ فَارِسَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا خَمَدَتْ أَيْضًا لَيْلَتَئِذٍ، وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وأنَّه سَقَطَ من شرفات قصر كسرى أربع عشر شرفة، مؤذنة بزوال
دولتهم بَعْدَ هَلَاكِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ مُلُوكِهِمْ فِي أَقْصَرِ مُدَّةٍ، وَكَانَ لَهُمْ فِي الْمُلْكِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وأمَّا إِحْيَاءُ الطُّيور الْأَرْبَعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَلَا ابْنُ حَامِدٍ، وَسَيَأْتِي فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ المحمَّدية مِنْ هَذَا النَّمَطِ ما هو مثل ذلك كما سيأتي التنبه عَلَيْهِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، مِنْ إِحْيَاءِ أَمْوَاتٍ بدعوات أمَّته، وحنين
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute