فذبحتها، هلكت نفسك وعيالك.
فما التفت إليها، واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له: أعندك شئ أكتب لك فيه كتاباً؟ فأتاني بهذه القطعة فَكَتَبْتُ لَهُ بِعُودٍ مِنْ ذَلِكَ الرَّمَادِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَاللَّهِ لَأُنْفِذَنَّهَا لَهُ كُلَّهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ المال سواها.
فأمر له بخمسمائة ألف فَقَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ وَاسْتَمَرَّ مُقِيمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي طَرِيقِ الْحَاجِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ، فَجَعَلَ يقري الضيف ومن مرَّ به من الناس، فعرف منزله بِمَنْزِلِ مُضِيفِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ.
وَعَنْ سَوَّارٍ - صَاحِبِ رَحْبَةِ سَوَّارٍ - قَالَ: انْصَرَفْتُ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ الْمَهْدِيِّ فَجِئْتُ مَنْزِلِي فَوُضِعَ لِيَ الْغَدَاءُ فَلَمْ تُقْبِلْ نَفْسِي عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ خَلْوَتِي لِأَنَامَ في القائلة فلم يأخذني نوم، فاستدعيت بعض حظاياي لا تلهى بها فلم تنبسط نفسي إليها، فَنَهَضْتُ فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَنْزِلِ وَرَكِبْتُ بَغْلَتِي فَمَا جَاوَزْتُ الدَّارَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى لَقِيَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَيْنَ هَذِهِ؟ فقال: من ملك الْجَدِيدِ.
فَاسْتَصْحَبْتُهُ مَعِي وَسِرْتُ فِي أَزِقَّةِ بَغْدَادَ لا تشاغل عما أَنَا فِيهِ مِنَ الضَّجَرِ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ عِنْدَ مَسْجِدٍ فِي بَعْضِ الْحَارَاتِ، فَنَزَلْتُ لِأُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ إِذَا بِرَجُلٍ أَعْمَى قَدْ أَخَذَ بِثِيَابِي فَقَالَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حاجة، فقلت: وما حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرٌ وَلَكِنَّنِي لَمَّا شممت رائحة طيبك ظننت إنك مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ وَالثَّرْوَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُفْضِيَ إليك بحاجتي.
فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَصْرَ الَّذِي تُجَاهَ الْمَسْجِدِ كَانَ لِأَبِي فَسَافَرَ مِنْهُ إلى خراسان فباعه وَأَخَذَنِي مَعَهُ وَأَنَا صَغِيرٌ، فَافْتَرَقْنَا هُنَاكَ وَأَصَابَنِي أنا الضرر، فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فَجِئْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ أَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا أَتَبَلَّغُ بِهِ لَعَلِّي أَجْتَمِعُ بِسَوَّارٍ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ سِعَةٌ يَجُودُ مِنْهَا عَلَيَّ.
فَقُلْتُ: وَمَنْ أَبُوكَ؟ فَذَكَرَ رَجُلًا كَانَ أَصْحَبَ النَّاسَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنَا سَوَّارٌ صَاحِبُ
أَبِيكَ، وَقَدْ مَنَعَنِي الله يَوْمِكَ هَذَا النَّوْمَ وَالْقَرَارَ وَالْأَكْلَ وَالرَّاحَةَ حَتَّى أخرجني من منزلي لأجتمع بك، وأجلسني بين يديك، وأمرت وكيلي فدفع له الألفي الدرهم التي معه، وقلت له: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِ مَنْزِلِي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
وَرَكِبْتُ فَجِئْتُ دَارَ الْخِلَافَةِ وَقُلْتُ: مَا أُتْحِفَ الْمَهْدِيَّ اللَّيْلَةَ فِي السَّمَرِ بِأَغْرَبَ مِنْ هَذَا.
فَلَمَّا قَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ تَعَجَّبَ من ذلك جداً وأمر لذلك الأعمى بألفي دينار، وقال لي: هل عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: كَمْ؟ قُلْتُ: خمسون ألف دينار.
فسكت وحادثني ساعة ثم لما قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا الحمالون قد سبقوني بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ دِينَارٍ لِلْأَعْمَى، فَانْتَظَرْتُ الأعمى أن يجئ في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسيت عدت إِلَى الْمَهْدِيُّ فَقَالَ: قَدْ فَكَّرْتُ فِي أَمْرِكَ فَوَجَدْتُكَ إِذَا قَضَيْتَ دَيْنَكَ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ شئ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أُخْرَى.
فلما كان اليوم الثالث جاءني الأعمى فقلت: قد رزقني الله بسببك خيراً كثيراً، ودفعت له الالفي الدينار الَّتِي مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ وَزِدْتُهُ أَلْفَيْ دِينَارٍ من عندي أَيْضًا.
وَوَقَفَتِ امْرَأَةٌ لِلْمَهْدِيُّ فَقَالَتْ: يَا عَصَبَةَ رَسُولِ اللَّهِ اقْضِ حَاجَتِي.
فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا سمعتها من أحد غَيْرِهَا، اقْضُوا حَاجَتَهَا وَأَعْطُوهَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه