للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يستعمل على الأعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير. وكان يكتب إلى عماله: اجتنبوا الاشغال عند حضور الصلاة، فإن من أضاعها فهو لما سواها من شرائع الاسلام أشد تضييعا. وقد كان يكتب الموعظة إلى العامل من عماله فينخلع منها، وربما عزل بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد من شدة ما تقع موعظته منه، وذلك أن الموعظة إذا خرجت من قلب الواعظ دخلت قلب الوعوظ. وقد صرح كثير من الأئمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد كتب إليه الحسن البصري بمواعظ حسان ولو تقصينا ذلك لطال هذا الفصل. ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارة إلى ذلك، وكتب إلى بعض عماله: أذكر ليلة تمخض بالساعة فصباحها القيامة، فيالها من ليلة ويا له من صباح، وكان يوما على الكافرين عسيرا. وكتب إلى آخر: أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك، قالوا: فخلع هذا العامل نفسه من العمالة وقدم على عمر فقال له: مالك؟ فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبدا.

[فصل]

وقد رد جميع المظالم كما قدمنا، حتى إنه رد فص خاتم كان في يده، قال: أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى إنه ترك التمتع بزوجته الحسناء، فاطمة بنت عبد الملك، يقال كانت من أحسن النساء، ويقال إنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم. وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في خلافته ثلاثمائة درهم، وكان له من الأولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال إنه كان خيرا من أبيه، فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه، وكان قبل الخلافة يؤتي بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: ما أحسنه لولا خشونة فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع ولا يغسله حتى يتسخ جدا، ويقول: ما أحسنه لولا لينه. وكان يلبس الفروة الغليظة، وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يبن شيئا في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال: ما ترك شيئا من الدنيا إلا عوضني الله ما هو خير منه، وكان يأكل الغليظ ولا يبالي بشئ من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده. حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني، لان عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون؟ ليس من جرب كمن لم يجرب. وتقدم قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز. وقال عبد الله بن دينار: لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئا، وذكروا أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ

<<  <  ج: ص:  >  >>