للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَحُثُّ عَلَى التَّقْوَى وَيُكْرَهُ قُرْبُهُ * وَتَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَهْوَ نَذِيرُ

وَلَمْ يَسْتَزِرْ عَنْ رَغْبَةٍ فِي زِيَارَةٍ * وَلَكِنْ عَلَى رَغْمِ الْمَزُورِ يَزُورُ ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّلَّاقَةِ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ شَمَالِيَّ قُرْطُبَةَ، بِمَرْجِ الْحَدِيدِ، كَانَتْ وَقْعَةً عَظِيمَةً نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا الْإِسْلَامَ وَخَذَلَ فِيهَا عَبَدَةَ الصُّلْبَانِ، وذل ك أن القيش (١) مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَمَقَرُّ مُلْكِهِ بِمَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ، كَتَبَ إِلَى الْأَمِيرِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بن عبد المؤمن ملك الغرب يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه، ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي قتاله، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ فِيهِ تَأْنِيبٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، فَكَتَبَ السُّلْطَانُ يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ فِي رَأْسِ كِتَابِهِ فَوْقَ خَطِّهِ: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل: ٣٧] ثُمَّ نَهَضَ مِنْ فوره في جنوده وَعَسَاكِرِهِ، حَتَّى قَطَعَ الزُّقَاقَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَالْتَقَوْا في المحل المذكور، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ أَوَّلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، ثُمَّ كَانَتْ أَخِيرًا عَلَى الْكَافِرِينَ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَكَسَرَهُمْ وَخَذَلَهُمْ أَقْبَحَ كَسْرَةٍ، وَشَرَّ هَزِيمَةٍ وَأَشْنَعَهَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ (٢) وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، مِنْ ذَلِكَ مائة ألف خيمة وثلاث (٣) وَأَرْبَعُونَ خَيْمَةً، وَمِنَ الْخَيْلِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَمِنَ الْبِغَالِ مِائَةُ أَلْفِ بَغْلٍ، وَمِنَ الْحُمُرِ مِثْلُهَا، وَمِنَ السِّلَاحِ التَّامِّ سَبْعُونَ أَلْفًا، ومن العدد شئ كَثِيرٌ، وَمَلَكَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُصُونِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَحَاصَرَ مَدِينَتَهُمْ طُلَيْطُلَةَ مُدَّةً، ثُمَّ لَمْ يَفْتَحْهَا فَانْفَصَلَ عَنْهَا رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ.

وَلَمَّا حَصَلَ للقيش (١) ما حصل حلق لحيته ورأسه وَنَكَّسَ صَلِيبَهُ وَرَكِبَ حِمَارًا وَحَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَتَلَذَّذُ بِطَعَامٍ وَلَا يَنَامُ مَعَ امرأة حتى تنصره النصرانية، ثم طاف على ملوك الفرنج فَجَمَعَ مِنَ الْجُنُودِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله عزوجل، فَاسْتَعَدَّ لَهُ السُّلْطَانُ يَعْقُوبُ فَالْتَقَيَا فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عظيماً لم يسمع بمثله، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ أَقْبَحَ مِنْ هَزِيمَتِهِمُ الْأُولَى، وَغَنِمُوا منهم نظير ما تقدم أَوْ أَكْثَرَ، وَاسْتَحْوَذَ السُّلْطَانُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ معاملهم وَقِلَاعِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ بِيعَ الْأَسِيرُ بِدِرْهَمٍ، وَالْحِصَانُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَالْخَيْمَةُ بدرهم، والسيف بدون ذلك ثُمَّ قَسَمَ السُّلْطَانُ هَذِهِ الْغَنَائِمَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، فَاسْتَغْنَى الْمُجَاهِدُونَ إِلَى الْأَبَدِ، ثُمَّ طَلَبَتِ الْفِرِنْجُ مِنَ السُّلْطَانِ الْأَمَانَ

فَهَادَنَهُمْ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ خَمْسَ سِنِينَ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ التوزي الذي يقال له المكلثم، ظَهَرَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ فَأَحْدَثَ أُمُورًا فَظِيعَةً فِي غيبة السلطان واشرف به بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين، فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث، وعاث في الأرض


(١) في الكامل ١٢ / ١١٣ ألفنش.
(٢) في الكامل: وستة.
(٣) في الاصل وثلاثة وهو خطأ.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>