للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تنح عن القبيح ولا ترده … ومن أوليته حسنا فزده

ستكفي من عدوك كل كيد … إذا كاد العدو ولم تكده

وقال القاضي يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق: ما مات وفيهم فقير. ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين:

الموت فيه جمع الخلق مشترك … لا سوقة منهم يبقى ولا ملك

ما ضر أهل قليل في تفاقرهم … وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا

ثم أمر بالبسط فطويت ثم ألصق خده بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه. وقال بعضهم: لما احتضر الواثق ونحن حوله غشي عليه فقال بعضنا لبعض: انظروا هل قضى؟ قال: فدنوت من بينهم إليه لأنظر هل هدأ نفسه، فأفاق فلحظ إلي بعينه فرجعت القهقرى خوفا منه، فتعلقت قائمة سيفي بشئ فكدت أن أهلك، فما كان عن قريب حتى مات وأغلق عليه الباب الذي هو فيه وبقي فيه وحده واشتغلوا عن تجهيزه بالبيعة لأخيه جعفر المتوكل، وجلست أنا أحرس الباب فسمعت حركة من داخل البيت فدخلت فإذا جرذ قد أكل عينه التي لحظ إلي بها، وما كان حولها من الخدين.

وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني، في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائتين - عن ست وثلاثين سنة، وقيل ثنتين وثلاثين سنة. وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، وقيل خمس سنين وشهران وأحد وعشرين يوما، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله. والله أعلم.

[خلافة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم]

بويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق وقت الزوال من يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة. وكانت الأتراك قد عزموا على تولية محمد بن الواثق فاستصغروه فتركوه وعدلوا إلى جعفر هذا، وكان عمره إذ ذاك ستا (١) وعشرين سنة، وكان الذي ألبسه خلعة الخلافة أحمد بن أبي دؤاد القاضي، وكان هو أول من سلم عليه بالخلافة وبايعه الخاصة والعامة، وكانوا قد اتفقوا على تسميته بالمنتصر بالله، إلى صبيحة يوم الجمعة فقال ابن أبي دؤاد رأيت أن يلقب بالمتوكل على الله، فاتفقوا على ذلك، وكتب إلى الآفاق وأمر بإعطاء الشاكرية من الجند ثمانية شهور، وللمغاربة أربعة شهور ولغيرهم ثلاثة شهور واستبشر الناس به. وقد كان المتوكل رأى في منامه في حياة أخيه هارون الواثق كأن شيئا نزل عليه من


(١) في مروج الذهب ٤/ ٩٨: سبعا وعشرين وأشهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>