للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكفر والكذب والكر وَالْكَيْدِ " (١) وَكَذَا صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْ أَجَلِ مَا وُضِعَ فِي ذلك كتاب القاضي أبو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، الَّذِي سَمَّاهُ " كَشْفَ الْأَسْرَارِ وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ " وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعراء فِي بَنِي أَيُّوبَ يَمْدَحُهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بديار مصر: أبدتم من بلى (٢) دَوْلَةَ الْكُفْرِ مِنْ * بَنِي عُبَيْدٍ بِمِصْرَ إِنَّ هَذَا هُوَ الْفَضْلُ زَنَادِقَةٌ، شِيعِيَّةٌ، بَاطِنِيَّةٌ * مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالِحِينَ لَهُمْ أَصْلُ يُسَرُّونَ كُفْرًا، يظهرون تشيعاً * ليستروا سابور عمهم الجهل وفيها أَسْقَطَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ المكوس والضرائب، وقرئ المنشور بذلك على رؤوس الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَالِثَ صَفَرٍ.

وفيها حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ غَزَا فِي هذه السنة بلاد الفرنج في سواحل فَأَحَلَّ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَرَّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْهُ نِقْمَةً وَوَعِيدًا، ثمَّ عَزَمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ وَكَتَبَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَلْتَقِيهِ بِالْعَسَاكِرِ المصرية إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صَلَاحُ الدِّينِ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ غَائِلَةٌ يَزُولُ بِهَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التمكن من بلاد مصر، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ مِنَ مصر لأجل امْتِثَالَ الْمَرْسُومِ، فَسَارَ أَيَّامًا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا

مُعْتَلًّا بِقِلَّةِ الظَّهْرِ، وَالْخَوْفِ عَلَى اخْتِلَالِ الْأُمُورِ إِذَا بَعُدَ عَنْ مِصْرَ وَاشْتَغَلَ عَنْهَا، وَأَرْسَلَ يعتذر إلى نُورِ الدِّينِ.

فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، وَاشْتَدَّ غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غَيْرِهِ، وَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْخَبَرُ صَلَاحَ الدِّينِ ضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، فَبَادَرَ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عَمَرُ وقال: والله لو قصدنا نور الدين لنقاتله، فشتمه الأمير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وَأَسْكَتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: اسْمَعْ مَا أَقُولُ لك، والله ما ههنا أَحَدٌ أَشْفَقُ عَلَيْكَ مِنِّي وَمِنْ خَالِكَ هَذَا - يَعْنِي شِهَابَ الدِّينِ الْحَارِمِيَّ - وَلَوْ رَأَيْنَا نُورَ الدِّينِ لَبَادَرْنَا إِلَيْهِ وَلَقَبَّلْنَا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وكذلك بقية الأمراء والجيش، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ مَعَ نَجَّابٍ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ هُنَالِكَ بِالِانْصِرَافِ والذهاب، فلما خلى بِابْنِهِ قَالَ لَهُ: أَمَا لَكَ عَقْلٌ؟ تَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا بِحَضْرَةِ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ عُمْرُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَتُقِرُّهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَ نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، وَلَكِنِ ابْعَثْ إِلَيْهِ وَتَرَفَّقْ لَهُ وَتَوَاضَعْ عِنْدَهُ، وقل له: وأي حاجة إلى مجئ مولانا السلطان إلى قتالي؟ ابعث إلي بنجاب أو جمال حتى أجئ مَعَهُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْكَ.

فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَانَ قَلْبُهُ لَهُ، وَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ عَنْهُ، وَاشْتَغَلَ بغيره، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قدراً مقدوراً.


(١) لم أعثر فيما بين أيدينا من مراجع لهذا الكتاب من أثر.
(٢) في الروضتين: ألستم مزيلي.. (*)

<<  <  ج: ص:  >  >>