فيها أمر الملك الناصر ببناء قلعة الجبل وإحاطة السور على القاهرة ومصر، فعمر قلعة للملك لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها، وولى عمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش مملوك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. وفيها كانت وقعة الرملة على المسلمين، وفي جمادى الأولى منها سار السلطان الناصر صلاح الدين من مصر قاصدا غزو الفرنج، فانتهى إلى بلاد الرملة فسبى وغنم، ثم تشاغل جيشه بالغنائم وتفرقوا في القرى والمحال، وبقي هو في طائفة من الجيش منفردا فهجمت عليه الفرنج في جحفل من المقاتلة فما سلم إلا بعد جهدا جهيد، ثم تراجع الجيش إليه واجتمعوا عليه بعد أيام، ووقعت الأراجيف في الناس بسبب ذلك، وما صدق أهل مصر حتى نظروا إليه وصار الامر كما قيل … رضيت من الغنيمة بالإياب … ومع هذا دقت البشائر في البلدان فرحا بسلامة السلطان، ولم تجر هذه الوقعة إلا بعد عشر سنين، وذلك يوم حطين، وقد ثبت السلطان في هذه الوقعة ثباتا عظيما، وأسر للملك المظفر تقي الدين عمر بن أخي السلطان ولده شاهنشاه، فبقي عندهم سبع سنين، وقتل ابنه الآخر، وكان شابا قد طر شاربه، فحزن على المقتول والمفقود، وصبر تأسيا بأيوب، وناح كما ناح داود، وأسر الفقيهان الاخوان ضياء الدين عيسى وظهير الدين فافتداهما السلطان بعد سنتين بتسعين (١) ألف دينار.
وفيها تخبطت دولة حلب وقبض السلطان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين على الخادم كمشتكين، وألزمه بتسليم قلعة حارم، وكانت له، فأبى من ذلك فعلقه منكوسا ودخن تحت أنفه حتى مات من ساعته. وفيها جاء ملك كبير من ملوك الفرنج يورم أخذ الشام لغيبة السلطان واشتغال نوابه ببلدانهم. قال العماد الكاتب: ومن شرط هدنة الفرنج أنه متى جاء ملك كبير من ملوكهم لا يمكنهم دفعه أنهم يقاتلون معه ويؤازرونه وينصرونه، فإذا انصرف عنهم عادت الهدنة كما كانت، فقصد هذا الملك وجملة الفرنج مدينة حماه وصاحبها شهاب الدين محمود خال السلطان مريض، ونائب دمشق ومن معه من الامراء مشغولون ببلدانهم، فكادوا يأخذون البلد ولكن هزمهم الله بعد أربعة أيام، فانصرفوا إلى حارم فلم يتمكنوا من أخذها وكشفهم عنها الملك الصالح صاحب حلب، وقد دفع إليهم من الأموال والأسرى ما طلبوه منه وتوفي صاحب حماه شهاب الدين محمود خال السلطان الناصر، وتوفي قبله ولده تتش بثلاثة أيام، ولما سمع الملك الناصر بنزول الفرنج على حارم خرج من
(١) في الكامل والروضتين: بعد سنين بستين ألف دينار.