عَلَيْهِ، وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْكُو إِلَى صاحبه شدة شوقه إليه فَلَمْ يَزَالَا يَتَحَدَّثَانِ إِلَى السَّحَرِ، وَيَزِيدُ يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا رِيبَةٌ، حَتَّى إِذَا همَّ الْأَحْوَصُ بِالْخُرُوجِ قَالَ: أَمْسَى فُؤَادِيَ فِي همٍ وَبَلْبَالِ * مِنْ حُبِّ مَنْ لَمْ أَزَلْ مِنْهُ عَلَى بَالِ
فَقَالَتْ: صَحَا المحبُّون بَعْدَ النَّأْيِ إِذْ يَئِسُوا * وَقَدْ يَئِسْتُ وما أضحوا عَلَى حَالِ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَسْلُو بِيَأْسٍ عَنْ أَخِي ثقةٍ * فَعَنْكِ سلامٌ مَا أَمْسَيْتُ بِالسَّالِي فَقَالَتْ: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَاكَ يَا شَجَنِي * حَتَّى تُفَارِقَ مِنِّي الرُّوحُ أَوْصَالِي فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَابَ مَنْ أَمْسَى وَأَنْتِ لَهُ * يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ فِي أهلٍ وَفِي مَالِ قَالَ: ثُمَّ وَدَّعَهَا وَخَرَجَ، فَأَخَذَهُ يَزِيدُ وَدَعَا بِهَا فَقَالَ: أَخْبِرَانِي عَمَّا كَانَ فِي لَيْلَتِكُمَا وأصدقاني، فأخبراه وأنشده ما قالا، فلم يحرفا منه حَرْفًا وَلَا غَيَّرَا شَيْئًا مِمَّا سَمِعَهُ، فَقَالَ لَهَا يَزِيدُ: أَتُحِبِّينَهُ؟ قَالَتْ: إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: حُبًّا شَدِيدًا جَرَى كَالرُّوحِ فِي جَسَدِي * فَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ؟ فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهَا؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: حُبًّا شَدِيدًا تَلِيدًا غَيْرَ مطرفٍ * بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِثْلَ النَّارِ يَضْطَرِمُ فَقَالَ يَزِيدُ: إِنَّكُمَا لَتَصِفَانِ حُبًّا شَدِيدًا خُذْهَا يَا أَحْوَصُ فَهِيَ لَكَ، وَوَصَلَهُ صِلَةً سَنِيَّةً.
فَرَجَعَ بِهَا الْأَحْوَصُ إِلَى الْحِجَازِ وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَزِيدَ كَانَ قَدِ اشْتَهَرَ بِالْمَعَازِفِ وَشُرْبِ الخمر والغنا وَالصَّيْدِ وَاتِّخَاذِ الْغِلْمَانِ وَالْقِيَانِ وَالْكِلَابِ وَالنِّطَاحِ بَيْنَ الْكِبَاشِ وَالدِّبَابِ وَالْقُرُودِ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُصْبِحُ فِيهِ مَخْمُورًا، وَكَانَ يَشُدُّ الْقِرْدَ عَلَى فَرَسٍ مُسَرَّجَةٍ بِحِبَالٍ وَيَسُوقُ بِهِ، وَيُلْبِسُ الْقِرْدَ قَلَانِسَ الذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ الْغِلْمَانُ، وَكَانَ يُسَابِقُ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَكَانَ إِذَا مَاتَ الْقِرْدُ حَزِنَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ حَمَلَ قِرْدَةً وَجَعَلَ يُنَقِّزُهَا فَعَضَّتْهُ.
وَذَكَرُوا عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أبي مدعور: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: آخِرُ مَا تكلَّم بِهِ يَزِيدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا لَمْ أُحِبُّهُ، وَلَمْ أُرِدْهُ، وَاحْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ.
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ آمَنْتُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute