للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من علمائنا عُلَمَاءِ السِّيَرِ - أَنَّهُمُ اقْتَتَلُوا بِالرِّمَاحِ حَتَّى تَقَصَّفَتْ، وَبِالنِّبَالِ حَتَّى فَنِيَتْ، وَبِالسُّيُوفِ حَتَّى تَحَطَّمَتْ ثُمَّ صَارُوا إِلَى أَنْ تَقَاتَلُوا بِالْأَيْدِي وَالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ والتراب في الوجوه، وتعاضوا بالأسنان يَقْتَتِلُ الرَّجُلَانِ حَتَّى يُثْخِنَا ثُمَّ يَجْلِسَانِ يَسْتَرِيحَانِ، وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهُمْ كَذَلِكَ وَصَلَّى النَّاسُ الصُّبْحَ إِيمَاءً وهم في القتال حتى تضاحى النهار وَتُوَجَّهَ النَّصْرُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الميمنة، فجعل بِمَنْ فِيهَا عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَتَبِعَهُ عَلِيٌّ فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَ أَهْلُ الشَّامِ الْمَصَاحِفَ فَوْقَ الرِّمَاحِ: وَقَالُوا: هَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قَدْ فَنِيَ النَّاسُ فَمَنْ لِلثِّغُورِ؟ وَمَنْ لِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ.

وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ إن الذي أشار بهذا هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَى، أنَّ أهل العراق قد استظهروا في ذلك الموقف، أَحَبَّ أَنْ يَنْفَصِلَ الْحَالُ وَأَنْ يَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ فإن كلا الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون.

فقال إلى معاوية: إني قد رأيت أمراً لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة، أَرَى أَنْ نَرْفَعَ الْمَصَاحِفَ وَنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهَا، فَإِنْ أجابوا كلهم إلى ذلك بَرَدَ القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب رِيحُهُمْ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ.

قَالَ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فِي مَسْجِدِ أَهْلِهِ أَسْأَلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ القوم الذين قتلهم علي بالنهروان فيما استجابوا له وفيما فارقوه، وفيما اسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَلَمَّا اسْتَحَرَّ القتال بِأَهْلِ الشَّامِ اعْتَصَمُوا بِتَلٍّ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ بِمُصْحَفٍ فَادْعُهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْبَى عَلَيْكَ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ بعد ذلك وَهُمْ مُعْرِضُونَ) * [آل عمران:

٢٣] فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ! وأنا أَوْلَى بِذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَتْهُ الْخَوَارِجُ وَنَحْنُ نَدْعُوهُمْ يَوْمَئِذٍ الْقُرَّاءَ وَسُيُوفُهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا ينتظر هؤلاء الْقَوْمِ الَّذِينَ عَلَى التَّلِّ أَلَا نَمْشِيَ إِلَيْهِمْ بِسُيُوفِنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَتَكَلَّمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين رسول الله وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ - وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عمر إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا تقدم في موضعه (١) .

رفع أهل الشام المصاحف فَلَمَّا رُفِعَتِ الْمَصَاحِفُ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: نُجِيبُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَنُنِيبُ إِلَيْهِ.

قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: عِبَادَ اللَّهِ أمضوا إلى حقكم وصدقكم


(١) انظر مسند الإمام أحمد ٣ / ٤٨٥ - ٤٨٦.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>