للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهِيَ تَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهُ، وَهِيَ تُحْرِقُ الْحِجَارَةَ وَتُذِيبُهَا، حَتَّى تَعُودَ كَالطِّينِ الْمَبْلُولِ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ الْهَوَاءُ حَتَّى يَعُودَ كَخَبَثِ الْحَدِيدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْكِيرِ، فَاللَّهُ يَجْعَلُهَا عِبْرَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَرَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ (١) احْتَرَقَ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، ابْتَدَأَ حَرِيقُهُ مِنْ زَاوِيَتِهِ الْغَرْبِيَّةِ مِنَ الشَّمَالِ، وَكَانَ دَخَلَ أَحَدُ الْقَوْمَةِ (٢) إِلَى خِزَانَةٍ ثَمَّ ومعه نار فعلقت في الأبواب ثَمَّ، وَاتَّصَلَتْ بِالسَّقْفِ بِسُرْعَةٍ، ثُمَّ دَبَّتْ فِي السُّقُوفِ، وَأَخَذَتْ قِبْلَةً فَأَعْجَلَتِ النَّاسَ عَنْ قَطْعِهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةٌ حَتَّى احْتَرَقَتْ سُقُوفُ الْمَسْجِدِ أَجْمَعَ، وَوَقَعَتْ بَعْضُ أَسَاطِينِهِ وَذَابَ رَصَاصُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ النَّاسُ، وَاحْتَرَقَ سَقْفُ الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَوَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الْحُجْرَةِ، وَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ حَتَّى شُرِعَ فِي عِمَارَةِ سَقْفِهِ وَسَقْفِ الْمَسْجِدِ النَّبوي عَلَى صَاحِبِهِ أَفْضَلُ الصَّلاة وَالسَّلَامُ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَعَزَلُوا مَوْضِعًا لِلصَّلَاةِ، وَعُدَّ مَا وَقَعَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ الْخَارِجَةِ وَحَرِيقِ الْمَسْجِدِ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُنْذِرَةً بِمَا يَعْقُبُهَا فِي السَّنَةِ الآتية من الكائنات على ما سنذكره.

هَذَا كَلَامُ الشَّيخ شِهَابِ الدِّين أَبِي شَامَةَ.

وَقَدْ قَالَ أَبُو شَامَةَ:

فِي الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا بَعْدَهَا شِعْرًا وَهُوَ قوله: بعد ست من المئين والخمس * ين لذي أَرْبَعٍ جَرَى فِي الْعَامِ نَارُ أَرْضِ الْحِجَازِ مَعَ حَرْقِ الْمَسْ * جِدِ مَعْهُ تَغْرِيقُ دَارِ السَّلَامِ ثُمَّ أَخْذُ التَّتَارِ بَغْدَادَ فِي أَوَّ * لِ عَامٍ، مِنْ بَعْدِ ذَاكَ وَعَامِ لَمْ يُعْنَ أَهْلُهَا وَلِلْكُفْرِ أَعْوَا * نٌ عَلَيْهِمْ، يَا ضَيْعَةَ الْإِسْلَامِ وَانْقَضَتْ دَوْلَةُ الْخِلَافَةِ مِنْهَا * صَارَ مُسْتَعْصِمٌ بِغَيْرِ اعْتِصَامِ فَحَنَانًا عَلَى الْحِجَازِ وَمِصْرَ * وَسَلَامًا عَلَى بِلَادِ الشَّامِ رَبِّ سَلِّمْ وَصُنْ وعاف بقايا * المدن، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كملت الْمَدْرَسَةِ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَحَضَرَ فِيهَا الدَّرْسَ وَاقِفُهَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّين يُوسُفُ بْنُ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غِيَاثِ الدِّينِ غَازِيِّ بْنِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّين يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَادِي فَاتِحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَدَرَّسَ فِيهَا قَاضِي الْبَلَدِ صَدْرُ الدين بن سناء الدَّوْلَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ وَالْعُلَمَاءُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِدِمَشْقَ.

وَفِيهَا أُمِرَ بِعِمَارَةِ الرباط الناصري بسفح قاسيون.

وممَّن توفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:


(١) أرخ ابن إياس في البدائع هذا الحريق سنة ٦٥١ هـ.
(٢) قال في شذرات الذهب ٥ / ٢٦٣: حرقه الفراش أبي بكر المراغي بسقوط ذبالة من يده فأتت النار على جميع سقوفه ... (*)

<<  <  ج: ص:  >  >>