للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تاب إليه فهو في بعد وإدبار، لا في قرب وإقبال، كما يفعل من اغتر بالله من المعاصي المحظورات، ويدع الطاعات، فإن ترك الطاعات وفعل المعاصي أشد وأعظم من ارتكاب المحرمات بالشهوة النفسية.

فالتائب هو من اتقى المحذورات، وفعل المأمورات، وصبر على المقدورات، والله

سبحانه وتعالى هو المعين الموفق، وهو عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.

قَالُوا: وَكَانَ الْوَلِيدُ لَحَّانًا كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ الْوَلِيدَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَرَأَ في خطبته (يا ليتها كانت القاضية) فَضَمَّ التَّاءَ مِنْ لَيْتَهَا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا لَيْتَهَا كَانَتْ عَلَيْكَ وَأَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْكَ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ.

وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ (١) : إِنَّكَ لَرَجُلٌ لَوْلَا أَنَّكَ تَلْحَنُ، فَقَالَ: وَهَذَا ابْنُكَ الْوَلِيدُ يَلْحَنُ، فَقَالَ: لَكِنَّ ابْنِي سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَخِي أَبُو فُلَانٍ لا يلحن.

وقال ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ ثَنَا عَلِيٌّ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيَّ - قَالَ: كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ أَفْضَلَ خَلَائِفِهِمْ، بنى المساجد بدمشق (٢) ، ووضع المنائر، وَأَعْطَى النَّاسَ، وَأَعْطَى الْمَجْذُومِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ، وَأَعْطَى كُلَّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وَكُلَّ ضَرِيرٍ قَائِدًا (٣) ، وَفَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً عظاماً، وكان يرسل بنيه في كل غزوة إلى بلاد الروم، ففتح الهند والسند والأندلس وأقاليم بلاد العجم، حتى دخلت جيوشه إلى الصين وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا يَمُرُّ بِالْبَقَّالِ فَيَأْخُذُ حُزْمَةَ الْبَقْلِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: بِكَمْ تَبِيعُ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِفَلْسٍ، فَيَقُولُ: زِدْ فِيهَا فَإِنَّكَ تَرْبَحُ.

وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَبَرُّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَقْضِي عَنْهُمْ دُيُونَهُمْ، قَالُوا: وَكَانَتْ هِمَّةُ الْوَلِيدِ فِي الْبِنَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: مَاذَا بَنَيْتَ؟ مَاذَا عَمَرْتَ؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ فِي النِّسَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ تَزَوَّجْتَ؟ مَاذَا عِنْدَكَ مِنَ السَّرَارِيِّ؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قِرَاءَةِ القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ وِرْدُكَ؟ كَمْ تَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ؟ مَاذَا صليت البارحة؟ والناس يقولون: الناس على دين مليكهم، إن كان خماراً كثر الخمر.

وإن كان لوطياً فكذلك وإن كان شحيحاً حريصاً كان الناس كذلك، وإن كان جواداً كريماً شجاعاً كان الناس كذلك، وإن كان طماعاً ظلوماً غشوماً فكذلك، وإن كان ذا دينٍ وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص، والله أعلم.


(١) تقدم أن الحادثة حصلت بين عبد الملك وخالد بن يزيد بن معاوية.
(٢) في الطبري ٨ / ٩٧: مسجد دمشق ومسجد المدينة.
(٣) قال ابن خلكان ٦ / ٢٥٤: رتب للزمنى والاضراء من يقودهم ويخدمهم لانه أصابه رمد بعينيه فأقام مدة لا يبصر شيئاً فقال: إن أعادهما الله تعالى على قمت بحقه فيهما.
فلما برئ رأى أن شكر هذه النعمة الاحسان إلى العميان.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>