للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومقاربيته الصالحة، وَقَدْ بَنَى لَهُمْ دَارَ حَدِيثٍ بِالسَّفْحِ وَبِالْمَدِينَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ أُخْرَى، وَجَعَلَ فِيهَا نَعْلَ النَّبيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي مَا زَالَ حَرِيصًا على طلبه مِنَ النَّظَّامِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ التَّاجِرِ، وَقَدْ كان النظام ضنيناً به فعزم الأشرف أن يأخذ منه قطعة، ثم ترك ذلك خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْهَبَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ مَوْتَ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ بِدِمَشْقَ فَأَوْصَى لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ بِهِ، فَجَعَلَهُ الْأَشْرَفُ بِدَارِ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا كُتُبًا سَنِيَّةً نَفِيسَةً، وَبَنَى جَامِعَ التَّوْبَةِ بالعقبية، وَقَدْ كَانَ خَانًا لِلزِّنْجَارِيِّ فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ شئ كَثِيرٌ، وَبَنَى مَسْجِدَ الْقَصَبِ وَجَامِعَ جَرَّاحٍ وَمَسْجِدَ دَارِ السَّعَادَةِ، وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَنَشَأَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ بِكَفَالَةِ الْأَمِيرِ فَخْرِ الدِّينِ عُثْمَانَ الزِّنْجَارِيِّ، وَكَانَ أَبُوهُ يُحِبُّهُ، وَكَذَلِكَ أَخُوهُ الْمُعَظَّمُ ثُمَّ اسْتَنَابَهُ أَبُوهُ عَلَى مُدُنٍ كَثِيرَةٍ بِالْجَزِيرَةِ مِنْهَا الرُّهَا وَحَرَّانَ، ثُمَّ اتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ حِينَ مَلَكَ خِلَاطَ، وَكَانَ مِنْ أَعَفِّ النَّاسِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً وَسَرِيرَةً، لَا يعرف غير نسائه وسراريه، مَعَ أنَّه قَدْ كَانَ يُعَانِي الشَّرَابَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ.

حَكَى السِّبْطُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا بِهَذِهِ الْمَنْظَرَةِ مِنْ خِلَاطَ إِذْ دَخَلَ الْخَادِمُ فَقَالَ: بِالْبَابِ امْرَأَةٌ تَسْتَأْذِنُ، فَدَخَلَتْ فَإِذَا صُورَةٌ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَإِذَا هِيَ ابْنَةُ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ بِخِلَاطَ قَبْلِي، فذكرت أن الحاجب عليّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قَرْيَةٍ لَهَا، وَأَنَّهَا قَدِ احتاجت إلى بيوت الكرى، وَأَنَّهَا إِنَّمَا تَتَقَوَّتُ مِنْ عَمَلِ النُّقُوشِ لِلنِّسَاءِ، فَأَمَرْتُ بِرَدِّ ضَيْعَتِهَا إِلَيْهَا وَأَمَرْتُ لَهَا بِدَارٍ تَسْكُنُهَا، وَقَدْ كُنْتُ قُمْتُ لَهَا حِينَ دَخَلَتْ وَأَجْلَسْتُهَا بَيْنَ يَدِيَّ وَأَمَرْتُهَا بِسَتْرِ وَجْهِهَا حِينَ أَسْفَرَتْ عَنْهُ، وَمَعَهَا عَجُوزٌ، فَحِينَ قَضَتْ شُغْلَهَا

قُلْتُ لَهَا انْهَضِي عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَتِ الْعَجُوزُ: يَا خُوَنْدُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِتَحْظَى بِخِدْمَتِكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللَّهِ لَا يَكُونُ هَذَا، وَاسْتَحْضَرْتُ فِي ذِهْنِي ابْنَتِي رُبَّمَا يُصِيبُهَا نَظِيرُ مَا أَصَابَ هَذِهِ، فَقَامَتْ وَهِيَ تقول بالأرمني: سَتَرَكَ اللَّهُ مِثْلَ مَا سَتَرْتَنِي، وَقُلْتُ لَهَا: مهما كان مِنْ حَاجَةٍ فَأَنْهِيهَا إِلَيَّ أَقْضِهَا لَكِ، فَدَعَتْ لي وانصرفت، فقالت لي نفسي: في الحلال مندوحة عن الحرام، فتزوجها، فقلت: لا وَاللَّهِ لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، أَيْنَ الْحَيَاءُ وَالْكَرَمُ وَالْمُرُوءَةُ؟ قَالَ: وَمَاتَ مَمْلُوكٌ مِنْ مَمَالِيكِي وَتَرَكَ وَلَدًا لَيْسَ يَكُونُ فِي النَّاسِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ أَحْسَنُ شَبَابًا، وَلَا أَحْلَى شَكْلًا مِنْهُ، فَأَحْبَبْتُهُ وَقَرَّبْتُهُ، وَكَانَ مَنْ لَا يَفْهَمُ أَمْرِي يَتَّهِمُنِي بِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ عَدَا عَلَى إِنْسَانٍ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَاشْتَكَى عَلَيْهِ إِلَيَّ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، فَقُلْتُ أَثْبِتُوا أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَأَثْبَتُوا ذَلِكَ فحاجفت عَنْهُ مَمَالِيكِي وَأَرَادُوا إِرْضَاءَهُمْ بِعَشْرِ دِيَاتٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَوَقَفُوا لِي فِي الطَّرِيقِ وَقَالُوا: قَدْ أَثْبَتْنَا أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَقُلْتُ خُذُوهُ فَتَسَلَّمُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَلَوْ طَلَبُوا مِنِّي مُلْكِي فِدَاءً لَهُ لَدَفَعْتُهُ إليهم، ولكن استحيت مِنَ اللَّهِ إِنْ أُعَارِضَ شَرْعَهُ بِحَظِّ نَفْسِي رحمه الله تعالى وعفا عنه.

وَلَمَّا مَلَكَ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وستمائة نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشئ مِنَ الْعُلُومِ سِوَى التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْمَنْطِقِ وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ نُفِيَ مِنَ الْبَلَدِ.

وَكَانَ الْبَلَدُ بِهِ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، كَانَتِ الْقَلْعَةُ لَا تُغْلَقُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا، وَصُحُونُ الْحَلَاوَاتِ خَارِجَةٌ منها إلى الجامع والخوانق والربط،

<<  <  ج: ص:  >  >>