للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أختنقه حتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ، الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ به صبيان أهل الْمَدِينَةِ (١) * وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحاح وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجنَّة وغلِّقت أَبْوَابُ النَّار وصفِّدت الشَّياطين، وَفِي رِوَايَةٍ: مَرَدَةُ الجنِّ * فَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ مِنْ معجزات المسيح عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْرِ مَا وَاحِدٍ مِمَّنْ أسلم مِنَ الجنِّ فَشُفِيَ، وَفَارَقَهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَمَهَابَةً له، وامتثالاً لأمره.

صلوات الله وسلامه عليهم، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَآمَنُوا بِهِ وصدَّقوه وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وحذَّروهم مُخَالَفَتَهُ، لأنَّه كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْإِنْسِ والجنِّ، فَآمَنَتْ طَوَائِفُ مِنَ الجنِّ كَثِيرَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَوَفَدَتْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ وُفُودٌ كَثِيرَةٌ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحمن، وخبَّرهم بِمَا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مَنِ الْجِنَانِ، وَمَا لِمَنْ كَفَرَ مِنَ النِّيران، وَشَرَعَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يُطْعِمُونَ دَوَابَّهُمْ، فدلَّ عَلَى أَنَّهُ بيَّن لَهُمْ

مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْبَرُ * وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هَا هُنَا حَدِيثَ الْغُولِ الَّتِي كَانَتْ تَسْرِقُ التَّمر مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، وَيُرِيدُونَ إِحْضَارَهَا إِلَيْهِ فَتَمْتَنِعُ كُلَّ الِامْتِنَاعِ خَوْفًا مِنَ الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثمَّ افْتَدَتْ مِنْهُمْ بِتَعْلِيمِهِمْ قِرَاءَةَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ الَّتِي لَا يَقْرَبُ قَارِئَهَا الشَّيطان، وَقَدْ سُقْنَا ذَلِكَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ * وَالْغُولُ هِيَ الْجِنُّ المتبدِّي باللَّيل فِي صُورَةٍ مُرْعِبَةٍ * وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هَا هُنَا حِمَايَةَ جِبْرِيلَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ مَا مرَّة مِنْ أَبِي جَهْلٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي السِّيرة، وَذَكَرَ مُقَاتَلَةَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ * وأمَّا مَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ مِنَ النُّبُّوة وَالْمُلْكِ كَمَا كَانَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ، فَقَدْ خيَّر اللَّهُ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا، فَاسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَاضَعَ، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْداً رَسُولًا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عبَّاس، وَلَا شكَّ أنَّ مَنْصِبَ الرِّسالة أَعْلَى.

وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم كُنُوزَ الْأَرْضِ فَأَبَاهَا، قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللَّهُ مَعِي جِبَالَ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَلَكِنْ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كلَّه بأدلَّته وَأَسَانِيدِهِ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي السِّيرة أَيْضًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ * وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ هاهنا طَرَفًا مِنْهَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ جئ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَجُعِلَتْ فِي يَدِي * وَمِنْ حديث الحسين بن واقد عن الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنيا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ جَاءَنِي بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ مِنْ سُنْدُسٍ * وَمِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عن أبي لبابة مَرْفُوعًا: عَرَضَ عليَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ: لَا يَا ربِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ تضرَّعت إليك، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ * قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ:


(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٨٢ وأخرجه عن جابر بن سمرة، وعن عبد الله بن مسعود في المسند بنحوه ٥ / ١٠٤ و ١٠٥.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>