للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد، وذلك لما أساء العمال السيرة وظلموا الرعايا، فلما ظهر بايعه الناس فبعث إليه المأمون دِينَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ وَمَعَهُ كِتَابُ أَمَانٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا إِنْ هُوَ سَمِعَ وَأَطَاعَ، فَحَضَرُوا الْمَوْسِمَ ثُمَّ سَارُوا إلى اليمن وبعثوا بالكتاب إلى عبد الرحمن فسمع وَأَطَاعَ وَجَاءَ

حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ دينار، فساروا به إلى بغداد ولبس السواد فيها.

وفي هذه السنة تُوُفِّيَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ نَائِبُ العراق وَخُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا، وُجِدَ فِي فِرَاشِهِ مَيِّتًا بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْتَفَّ فِي الْفِرَاشِ، فَاسْتَبْطَأَ أَهْلُهُ خُرُوجَهُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَعَمُّهُ فَوَجَدَاهُ مَيِّتًا، فَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ الْمَأْمُونَ قَالَ: لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قدمه وأخرنا.

وذلك أنَّه بلغه أنَّ طاهراً خطب يوماً ولم يدع للمأمون فَوْقَ الْمِنْبَرِ، وَمَعَ هَذَا وَلَّى وَلَدَهُ عَبْدَ الله مكانه وأضاف إليه زيادة على ما كان ولاه أباه الجزيرة والشام نيابة فاستخلف عَلَى خُرَاسَانَ أَخَاهُ طَلْحَةَ بْنَ طَاهِرٍ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ طَلْحَةُ فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بجميع تلك البلاد، وكان نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم وكان طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هُوَ الَّذِي انْتَزَعَ بَغْدَادَ والعراق من يد الأمين وقتله، وقد دخل طاهر يَوْمًا عَلَى الْمَأْمُونِ فَسَأَلَهُ حَاجَةً فَقَضَاهَا لَهُ، ثم نظر إليه المأمون وغرورقت عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ طَاهِرٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَلَمْ يُخْبِرْهُ، فَأَعْطَى طَاهِرٌ حُسَيْنًا الْخَادِمَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى اسْتَعْلَمَ لَهُ مما بكى أمير المؤمنين فأخبره المأمون وقال لا تخبر به أحداً [وإلا] أقتلك، إني ذكرت قتله لأخي وَمَا نَالَهُ مِنَ الْإِهَانَةِ عَلَى يَدَيْ طَاهِرٍ، وَوَاللَّهِ لَا تَفُوتُهُ مِنِّي.

فَلَمَّا تَحَقَّقَ طَاهِرٌ ذلك سعى في النقلة من بين يدي المأمون، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَأَطْلَقَ لَهُ خادماً من خدامه، وعهد المأمون إلى الخادم إن رأى منه شيئاً يريبه أن يسمَّه، ودفع إليه سماً لا يطاق.

فلما خطب طَاهِرٌ وَلَمْ يَدْعُ لِلْمَأْمُونِ سمَّه الْخَادِمُ فِي كَامَخٍ فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ.

وَقَدْ كَانَ طَاهِرُ هذا يقال له ذو اليمينين، وكان أعور بفرد عين.

فقال فيه عمرو بن نباتة: يَا ذَا الْيَمِينَيْنِ وَعَيْنٍ وَاحِدَهْ * نُقْصَانُ عَيْنٍ ويمين زائدة واختلف في معنى قوله ذو الْيَمِينَيْنِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا بِشِمَالِهِ فقدَّه نصفين، وقيل لِأَنَّهُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَخُرَاسَانَ.

وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا ممدحاً يحب الشعراء ويعطيهم الْجَزِيلَ، رَكِبَ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ فَقَالَ فِيهِ شاعر (١) : عجبت لحرَّاقة ابن الحسين * لَا غَرِقَتْ كَيْفَ لَا تَغْرَقُ وَبَحْرَانِ مِنْ فَوْقِهَا وَاحِدٌ * وَآخَرُ مِنْ تَحْتِهَا مُطْبِقُ

وَأَعْجَبُ من ذلك أعوادها * وقد مسّها كيف لا تورق؟


(١) وهو عوف بن محلم كما في طبقات الشعراء: ١٨٩.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>