أجراه وساقه إليه، ثم أراد الله سبحانه أن ينقله من الزمن الثاني إلى الزمن الثالث من ذلك اللَّبن إلى رزق يحدثه له من كسب أبويه، بأن يجعل له الرَّحمة في قلوبهما حتى يؤثراه على نفسهما بكسبهما، ويغنياه ويغذياه بأطيب ما يقدران عليه من الأغذية، وهو لا يعينهما على شئ من ذلك بكسب ولا حيلة، حتى إذا عقل حدث نفسه بأنه إنما يرزق بحيلته ومكسبه وسعيه، ثم يدخل عليه في الزمن الرابع إساءة الظن بربه عزوجل، فيضيع أوامر الله في طلب المعاش وزيادة المال وكثرته، وينظر إلى أبناء الجنس وما عليه من التنافس في طلب الدنيا، فيكسب بذلك ضعف اليقين والإيمان، ويمتلئ قلبه فقراً وخوفاً منه مع المتاع، ويبتلى بموت القلب وعدم العقل، ولو نظر ابن آدم نظر معرفة وعقل لعلم أنه لن يغنيه في الزمن الرابع إلا من أغناه ورزقه في الأزمان الثلاثة قبل، فلا مقال له ولا معذرة مما سلط عليه في الزمان الرابع إلا برحمة الله، فإن ابن آدم كثير الشك يقصر به حكمه وعلمه عن علم الله والتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم، وتفهم حتى يعلم، علم أن علامة الله التي بها يعرف، خلقه ثم رزقه لما خلق، وقدره لما قدر.
وقال عطاء الخراساني: لقيت وهباً في الطريق فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز.
فقال: أوحى الله عزوجل إلى داود عليه السلام: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد
من عبادي بمخلوق دوني أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الأرض من تحته ولا أبالي في أي واد هلك.
وقال أبو بلال الأشعري عن أبي هشام الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب إن الله تعالى يقول: كفاني للعبد مآلاً، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب لَهُ مِنْ قَبْلُ أن يدعوني، فإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه.
وقال: قرأت في بعض الكتب أن الشيطان لم يكابد شيئاً أشد عليه من مؤمن عاقل لأنَّه إذا كان مؤمناً عاقلاً ذا بصيرة فهو أثقل على الشيطان من الجبال الصم، إنه ليزالل المؤمن العاقل فلا يستطيعه، فيتحول عنه إلى الجاهل فيستأمره ويتمكن من قياده.
وقال: قام موسى عليه السلام فلما رأته بنو إسرائيل قاموا، فقال: على مكانكم، ثم ذهب إلى الطور فإذا هو بنهر أبيض فيه مثل رؤوس الكثبان كافور محفوف بالرياحين، فلما رآه أعجبه فدخل عليه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثوبه، ثم رجع إلى الماء فاستنضح فيه إلى أن جف ثوبه، فلبسه ثم أخذ نحو الكثيب الآخر الذي فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبراً، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما؟ قالا: بلى فنزل فحفر، فقال لهما: لتحدثاني مثل من الرجل؟ فقالا: على طولك وهيئتك، فاضطجع فيه لينظروا فالتأمت عليه الأرض، فلم ينظر إلى قبر موسى عليه السلام إلا الرخم،