للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا شئ لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شئ عظيم هائل، وجرت له فصول يطول تفصيلها، وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئاً، ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمراً في مملكته، ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح، ويحسن إليهم، وكان حنفياً ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الصَّغِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وغيره، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُجَالِسُهُ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبي بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان محمود في مسألة العرش، ذَكَرَهَا ابْنُ الْهَيْضَمِ فِي مُصَنَّفٍ لَهُ، فَمَالَ السلطان محمود إِلَى قَوْلِ ابْنِ الْهَيْضَمِ، وَنَقَمَ عَلَى ابْنِ فُورَكَ كَلَامَهُ، وَأَمَرَ بِطَرْدِهِ وَإِخْرَاجِهِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِ الجهمية، وكان عادلاً جيداً، اشْتَكَى إِلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّ ابْنَ أُخْتِ الْمَلِكِ يهجم عليه في داره وَعَلَى أَهْلِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيُخْرِجُهُ مِنَ الْبَيْتِ وَيَخْتَلِي بِامْرَأَتِهِ، وَقَدْ حَارَ فِي أَمْرِهِ، وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه خوفاً وهيبة للملك.

فلما سمع الملك ذلك غضب غضباً شديداً وقال للرجل، وَيْحَكَ مَتَى جَاءَكَ فَائْتِنِي فَأَعْلِمْنِي، وَلَا تَسْمَعْنَ مِنْ أَحَدٍ مَنَعَكَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيَّ، وَلَوْ جاءك في الليل فائتني فأعلمني، ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إِنَّ هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إلى مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ مَسْرُورًا داعياً، فَمَا كَانَ إِلَّا لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت وَاخْتَلَى بِأَهْلِهِ، فَذَهَبَ بَاكِيًا إِلَى دَارِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْمَلِكَ نَائِمٌ، فَقَالَ: قَدْ تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلاً ولا نهاراً، فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد، حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر

إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد، وَعِنْدَهُمَا شَمْعَةٌ تَقِدُ، فَتَقَدَّمَ الْمَلِكُ فَأَطْفَأَ الضَّوْءَ ثُمَّ جَاءَ فَاحْتَزَّ رَأْسَ الْغُلَامِ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: ويحك الحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب فقال له الرجل: بالله لم أطفأت الشمعة؟ قال: ويحك إنَّه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حالة الذبح، فقال: ولم طلبت الماء سريعاً؟ فقال الملك: إني آليت على نفسي مُنْذُ أَخْبَرْتَنِي أَنْ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشاناً هذه الأيام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت.

فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعاً إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد.

وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه مع انطلاق الْبَطْنِ سَنَتَيْنِ، فَكَانَ فِيهِمَا لَا يَضْطَجِعُ عَلَى فراش، ولا يتكئ على شئ، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وستين سنة (١) ، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخلف من الاموال


(١) في ابن الأثير ٩ / ٣٩٨ كان مولده سنة ٣٦٠ هـ وفي وفيات الاعيان ٥ / ١٨١: سنة ٣٦١ هـ.
يعني أنه لم يتجاوز الستين من عمره.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>