٨٨ - ٨٩] طَلَبُوا بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، فَانْتَصَبَ شُعَيْبٌ لِلْمُحَاجَّةِ عَنْ قَوْمِهِ
فقال: (أو لو كُنَّا كَارِهِينَ) أَيْ هَؤُلَاءِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْكُمُ اخْتِيَارًا وَإِنَّمَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِنْ عَادُوا اضْطِرَارًا مُكْرَهِينَ، وَذَلِكَ لأن الإيمان إذا خالطته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد ولا يرتد أحد عَنْهُ وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ مِنْهُ.
وَلِهَذَا قَالَ (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شئ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) أَيْ فَهُوَ كَافِينَا وَهُوَ الْعَاصِمُ لَنَا وَإِلَيْهِ ملجاؤنا فِي جَمِيعِ أَمْرِنَا ثُمَّ اسْتَفْتَحَ عَلَى قَوْمِهِ واستنصر ربه عليه فِي تَعْجِيلِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) أَيِ الْحَاكِمِينَ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ لَا يَرُدُّ دُعَاءَ رُسُلِهِ إِذَا اسْتَنْصَرُوهُ عَلَى الَّذِينَ جَحَدُوهُ وَكَفَرُوهُ وَرَسُولَهُ خَالَفُوهُ.
وَمَعَ هَذَا صَمَّمُوا عَلَى ما هم عليه مشتملون، وبه متلبسون (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ) [الأعراف: ٩٠] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف: ٩١] ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمْ رَجْفَةٌ أَيْ رَجَفَتْ بِهِمْ أَرْضُهُمْ وَزُلْزِلَتْ زِلْزَالًا شَدِيدًا أَزْهَقَتْ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ أَجْسَادِهَا وَصَيَّرَتْ حيوانات أرضهم كجمادها وأصبحت جثثهم جَاثِيَةً لَا أَرْوَاحَ فِيهَا وَلَا حَرَكَاتٍ بِهَا وَلَا حَوَاسَّ لَهَا * وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَصُنُوفًا مِنَ الْمَثُلَاتِ وَأَشْكَالًا مِنَ الْبَلِيَّاتِ وَذَلِكَ لِمَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ قَبِيحِ الصِّفَاتِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَجْفَةً شَدِيدَةً أَسْكَنَتِ الْحَرَكَاتِ وَصَيْحَةً عَظِيمَةً أَخْمَدَتِ الْأَصْوَاتَ وَظُلَّةً أرسل عيلهم مِنْهَا شَرَرَ النَّارِ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا وَالْجِهَاتِ.
وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي كُلِّ سُورَةٍ بما يناسب سياقها ويوافق طباقها في سباق قِصَّةِ الْأَعْرَافِ أَرَجَفُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ وَتَوَعَّدُوهُمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ قَرْيَتِهِمْ أَوْ لَيَعُودُنَّ فِي مِلَّتِهِمْ رَاجِعِينَ فَقَالَ تَعَالَى (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) فَقَابَلَ الْإِرْجَافَ بِالرَّجْفَةِ وَالْإِخَافَةَ بِالْخِيفَةِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِهَذَا السِّيَاقِ وَمُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ السِّيَاقِ * وَأَمَّا فِي سُورَةِ هُودٍ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ والتنقص (أصلوتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: ٨٧] فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ كَالزَّجْرِ عَنْ تَعَاطِي هَذَا الكلام القبيح الذي واجهوا بِهِ هَذَا
الرَّسُولَ الْكَرِيمَ الْأَمِينَ الْفَصِيحَ فَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَسْكَتَتْهُمْ مَعَ رَجْفَةٍ أَسْكَنَتْهُمْ.
وَأَمَّا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة.
وكان إِجَابَةً لِمَا طَلَبُوا.
وَتَقْرِيبًا إِلَى مَا إِلَيْهِ رَغِبُوا.
فَإِنَّهُمْ قَالُوا (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
قَالَ رب أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الشعراء: ١٨٥ - ١٨٨] قال الله تعالى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء: ١٨٩] وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ.
وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: (كَذَّبَ