للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَرِيبٍ مِنْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فلمَّا تَحَقَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قُدُومَهُمْ وَعْدَهُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ سَيُظْفِرُهُ بِهَا، إمَّا الْعِيرُ وإمَّا النَّفِيرُ، فودَّ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابة - مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ - أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ لِلْعِيرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وقلَّة الرِّجال، وَكَرِهُوا لِقَاءَ النَّفير لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، فَخَارَ اللَّهُ لَهُمْ وَأَنْجَزَ لَهُمْ وَعْدَهُ فِي النَّفِيرِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، فَقُتِلَ مِنْ سَرَاتِهِمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ وَفَادَوْا أَنْفُسَهُمْ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنيا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: * (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) * [الأنفال: ٧] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَالَ تَعَالَى: * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الاسارى (١) إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) * [الأنفال: ٧٠] وَهَكَذَا وَقَعَ فإنَّ اللَّهَ عوَّض مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَمِنَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أنَّ العبَّاس جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، فإنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، فَقَالَ لَهُ: خُذْ، فَأَخَذَ فِي ثَوْبٍ مِقْدَارًا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يقله، وثم وَضَعَ مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى أَمْكَنَهُ أن يحمله عَلَى كَاهِلِهِ، وَانْطَلَقَ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ مَبْسُوطًا * وَهَذَا مِنْ تَصْدِيقِ هَذِهِ الْأَيَّةِ الْكَرِيمَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: * (وَإِنَّ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) * الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: ٢٨] ، وَهَكَذَا وَقَعَ عوَّضهم اللَّهُ عمَّا كان يغدو إِلَيْهِمْ مَعَ حُجَّاجِ الْمُشْرِكِينَ، بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ،

وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَسَلْبِ أَمْوَالِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا وَقَعَ بكفَّار أَهْلِ الشَّام مِنَ الرُّوم وَمَجُوسِ الْفُرْسِ، بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ الَّتِي انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى أَرْجَائِهَا، وَحَكَمَ عَلَى مَدَائِنِهَا وَفَيْفَائِهَا، قَالَ تَعَالَى: * (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) * [التوبة: ٣٣] وَقَالَ تَعَالَى: * (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنهم رجس) * الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: ٩٥] ، وَهَكَذَا وَقَعَ، لَمَّا رَجَعَ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ قَدْ تخلَّف عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَقَدْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي تخلُّفهم، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَاذِبُونَ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أن يجري أحوالهم على ظاهرها، لا يَفْضَحَهُمْ عِنْدَ النَّاس، وَقَدْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَعْيَانِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا كَمَا قدَّمناه لَكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ حُذَيْفَةُ بن اليمان ممن يعرفهم بتعريفه إيَّاه صلى الله عليه وسلَّم.

وَقَالَ تَعَالَى: * (وَإِنَّ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قليلا) * [الْإِسْرَاءِ: ٧٦] وَهَكَذَا وَقَعَ، لَمَّا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ ليثبِّتوه: أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، ثمَّ وَقَعَ الرَّأْيُ عَلَى الْقَتْلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أمر الله رسوله بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَخَرَجَ هُوَ وَصَدِيقُهُ أبو بكر، فَكَمَنَا فِي غَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثًا، ثمَّ ارْتَحَلَا بَعْدَهَا كَمَا قدَّمنا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ * (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذا أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حكيم) *


(١) كذا في النسخ ولعلها قراءة سبعية.
وما في التنزيل العزيز: الاسرى.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>