يصدر الناس كلهم عن رأيه. ولما أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش فساق بفرسه إلى أبي عبيدة فقال له: إني مشير بأمر، فقال: قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع. فقال له خالد إن هؤلاء القوم لابد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإني أخشى على الميمنة والميسرة وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدموهم كانوا لهم ردءا فنأتيهم من ورائهم. فقال له: نعم ما رأيت. فكان خالد في أحد الخيلين من وراء الميمنة وجعل قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله لكي إذا رآه المنهزم استحى منه ورجع إلى القتال، فجعل أبو عبيدة مكانه في القلب سعيد بن زيد أحد العشرة ﵃، وساق خالد إلى النساء من وراء الجيش ومعهن عدد من السيوف وغيرها، فقال لهن من رأيتموه موليا فاقتلنه، ثم رجع إلى موقفه ﵁.
ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال: عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بالقتال وشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله تعالى. قالوا: وخرج معاذ بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول يا أهل القرآن، ومتحفظي الكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ألم تسمعوا لقول الله: … (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلفت الذين من قبلهم) … الآية [النور: ٥٥]. فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره.
وقال عمرو بن العاص: يا أيها المسلمون غضوا الابصار، واجثوا على الركب، واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالاحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا يهولكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل.
وقال أبو سفيان: يا معشر المسلمين أنتم العرب وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل نائين عن أمير المؤمنين وأمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عدده، شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة وأن