عنها قبل موته، ثم وفد على معاوية فأكرمه وقربه واحترمه وعظمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعا، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحدا أحضر جوابا منه، ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزاه فيه بأحسن تعزية، ورد عليه ابن عباس ردا حسنا كما قدمنا، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس وعزاه بعبارة فصيحة وجيزة، شكره عليها ابن عباس، ولما مات معاوية ورام الحسين الخروج إلى العراق نهاه ابن عباس أشد النهي، وأراد ابن عباس أن يتعلق بثياب الحسين - لان ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره - فلم يقبل منه، فلما بلغه موته حزن عليه حزنا شديدا ولزم بيته، وكان يقول: يا لسان قل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لا تفعل تندم. وجاء إليه رجل يقال له جندب فقال له: أوصني، فقال: أوصيك بتوحيد الله والعمل له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول، وإلى الله مرفوع، يا جندب إنك لن تزدد من موتك إلا قربا، فصل صلاة مودع. وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور، وابك على ذنبك وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك، فكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت، ولن ينفعك إلا عملك. وقال بعضهم: أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم، قال: لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعا، ولا تمار سفيها ولا حليما فإن الحليم يغلبك والسفيه يزدريك، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالاحسان مأخوذ بالاجرام. فقال رجل عنده: يا بن عباس! هذا خير من عشرة آلاف. فقال ابن عباس: كلمة منه خير من عشرة آلاف. وقال ابن عباس: تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره - يعني أن تعجل العطية للمعطى، وأن تصغر في عين المعطي - وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها! فإن في إظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى، واستحياءه من الناس. وقال ابن عباس: أعز الناس على جليس لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت، وقال أيضا: لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعا إلا الله ﷿، وكذا رجل بدأني بالسلام أو أوسع لي في مجلس أو قام لي عن المجلس، أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ، ورجل حفظني بظهر الغيب. والمأثور عنه من هذه المكارم كثير جدا وفيما ذكرنا إشارة إلى ما لم نذكره.
وقد عده الهيثم بن عدي في العميان من الاشراف، وفي بعض الأحاديث الواردة عنه ما يدل على ذلك، وقد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه، فقيل له في ذلك فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن قلبي. وقال أبو القاسم البغوي: ثنا علي بن الجعد، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه وقع في عينيه الماء فقال له الطبيب: ننزعك من عينيك الماء على أن لا تصلي سبعة أيام. فقال: لا! إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان، وفي رواية أنه قيل له: نزيل