للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرَّجُلُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ! مَا أَقْبَحَ بِمِثْلِي أن يقوم يوم القيامة فيتعلق بأطرافك هذه الحسنة، وبوجهك هذا الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ مُصْعَبًا فِيمَ قَتَلَنِي.

فَعَفَا عَنْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أعز الله الأمير إن رأيت ما وهبتني من حياتي في عيش رضي، فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ نِصْفَهَا لِابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ حَيْثُ يَقُولُ فِيكَ: إِنَّ مُصْعَبًا شهابٌ مِنَ اللَّهِ * تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك رحمةٍ (١) لَيْسَ فِيهِ * جبروتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ يَتَّقِي الله في الأمور وقد * أفلح مَنْ كَانَ هَمَّهُ الِاتِّقَاءُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ قَدْ وَهَبْتَنِي حَيَاةً، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْعَلَ مَا قَدْ وَهَبْتَنِي من الحياة في عيش رضي وَسِعَةٍ فَافْعَلْ، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.

وَقَالَ الإمام أحمد: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ يزيد قال: بلغ مصعباً، عن عريف الأنصاري شئ فهَمَّ بِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيَّرًا - أَوْ قَالَ مَعْرُوفًا - اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ " (١) .

فَأَلْقَى مُصْعَبٌ نَفْسَهُ عَنْ سَرِيرِهِ وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْبِسَاطِ وَقَالَ: " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ " فَتَرَكَهُ.

وَمِنْ كَلَامِ مُصْعَبٍ فِي التَّوَاضُعِ أَنَّهُ قَالَ: العجبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ وَقَدْ جَرَى فِي

مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عن مصعب فقال: كان نبيلاً رئيساً تقياً أنيساً.

وقد تقدم أنه لما ظهر على الْمُخْتَارُ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ابْنُ عُمَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انضر في عينيه، فتعرف له فعرفه، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي قَتَلَتْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ مِمَّنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ بَايَعُوا الْمُخْتَارَ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُسْتَكْرَهٌ أَوْ جَاهِلٌ فَيُنْظَرَ حَتَّى يَتُوبَ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ أنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى غَنَمِ الزُّبَيْرِ فَنَحَرَ مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَا كَانَ مُسْرِفًا؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: وَهِيَ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تَعْرِفُهُ كما يعرفه الآدمي، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ مُوَحِّدٌ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يا بني تمتع من الماء البارد مَا اسْتَطَعْتَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الحسن، عن زفر بن قتيبة، عن الكبي قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا لجلسائه: من أشجع العرب والروم؟ قالوا شبيب: وقال آخر: قطري بن الفجاءة وفلان وفلان.

فقال عبد الملك: إن أشجع الناس لرجل جمع بين سكينة بنت


(١) في الكامل للمبرد ١ / ٣٩٩: قوة.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج ٣ / ٢٤١.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>