أسرجوا، فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهم النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال: فأخذوه فقيدوه، فيقال: إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مرارا ويعيدونها، وجعل يقول:(قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فيما يوحى إلى ربي إنه سميع قريب)[سبأ: ٥٠] وقال لأولئك الأتراك (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)[المؤمن: ٢٨]؟ فقالوا له بلسانهم ولغتهم: هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلا فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك: ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته؟ فقال: نسيت، فقال: ويحك سم الله ثم اطعنه، قال فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك، وهذا من تمام العدل والدين.
وقد قال الوليد بن مسلم عن ابن جابر فحدثني من سمع الأعور يقول: سمعت العلاء بن زياد العدوي. يقول: ما غبطت عبد الملك بشئ من ولايته إلا بقتله حارثا حيث إن رسول الله ﷺ قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، فمن قاله فاقتلوه، ومن قتل منهم أحدا فله الجنة ". وقال الوليد بن مسلم: بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك لو حضرتك ما أمرتك بقتله، قال: ولم؟ قال: إنه إنما كان به المذهب فلو جوعته لذهب ذلك عنه، وقال الوليد عن المنذر بن نافع، سمعت خالد بن الجلاخ يقول لغيلان: ويحك يا غيلان، ألم تأخذك في شبيبتك ترا من النساء في شهر رمضان بالتفاح، ثم صرت حارثيا تحجب امرأته وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت فصرت قدريا زنديقا.
وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل وملك الترك الأعظم فيهم، وقد كان يصانع المسلمين تارة ويتمرد أخرى، فكتب الحجاج إلى ابن أبي بكرة تأخذه بمن معك من المسلمين حتى تستبيح أرضه وتهدم قلاعه وتقتل مقاتلته، فخرج في جمع من الجنود من بلاده وخلق من أهل البصرة والكوفة ثم التقى مع رتبيل ملك الترك فكسره وهدم أركانه بسطوة بتارة، وجاس ابن أبي بكرة وجنده خلال ديارهم، واستحوذ على كثير من أقاليمه ومدنه وأمصاره، وتبر ما هنالك تتبيرا، ثم إن رتبيل تقهقر منه وما زال يتبعه حتى اقترب من مدينته العظمى، حتى كانوا منها على ثمانية عشر فرسخا وخافت الأتراك منهم خوفا شديدا، ثم إن الترك أخذت عليهم الطرق والشعاب وضيقوا عليهم المسالك حتى ظن كل من المسلمين أنه لا محالة هالك، فعند ذلك طلب عبيد الله أن يصالح رتبيل على أن يأخذ منه