وفي دون ما عاينت من فجعاتها … إلى دفعها داع وبالزهد آمر
فجد ولا تغفل وكن متيقظا … فعما قليل يترك الدار عامر
فشمر ولا تفتر فعمرك زائل … وأنت إلى دار الإقامة صائر
ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها … وإن نلت منها غبه لك ضائر
فهل يحرص عليها لبيب، أو يسر بها أريب؟ وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات:
ألا لا ولكنا نغر نفوسنا … وتشغلنا اللذات عما نحاذر
وكيف يلذ العيش من هو موقف … بموقف عدل يوم تبلى السرائر
كأنا نرى أن لا نشور وأننا … سدى مالنا بعد الممات مصادر
وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها.
أما قد نرى في كل يوم وليلة … يروح علينا صرفها ويباكر
تعاورنا آفاتها وهمومها … وكم قد ترى يبقى لها المتعاور
فلا هو مغبوط بدنياه آمن … ولا هو عن تطلا بها النفس قاصر
كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمه.
بل أوردته بعد عز ومنعة … موارد سوء ما لهن مصادر
فلما رأى أن لا نجاة وأنه … هو الموت لا ينجيه منه التحاذر
تندم إذ لم تغن عنه ندامة … عليه وأبكته الذنوب الكبائر
إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزول البلية.
أحاطت به أحزانه وهمومه … وأبلس لما أعجزته المقادر
فليس له من كربة الموت فارج … وليس له مما يحاذر ناصر
وقذ جشأت خوف المنية نفسه … ترددها منه اللها والحناجر
هنالك خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بالعويل، وقد أيسوا من العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه، وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشفيق.