للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال: إن هذه الكنيسة كلها دخلت في العنوة فهي لنا دونكم، فقالوا: إنك أولا دفعت إلينا الأموال وأقطعتنا الاقطاعات فأبينا، فمن إحسان أمير المؤمنين أن يصالحنا فيبقى لنا هذه الكنائس الأربع بأيدينا، ونحن نترك له بقية هذه الكنيسة، فصالحهم على إبقاء هذه الأربع الكنائس والله أعلم.

وقيل إنه عوضهم منها كنيسة عند حمام القاسم عند باب الفراديس داخله فسموها مريحنا باسم تلك الكنيسة التي أخذت منهم، وأخذوا شاهدها فوضعوه فوق التي أخذوها بدلها، فالله أعلم. ثم أمر الوليد بإحضار آلات الهدم واجتمع إليه الامراء والكبراء، وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن (١)، فقال الوليد: أنا أحب أن أجن في الله، ووالله لا يهدم فيها أحد شيئا قبلي، ثم صعد المنارة الشرقية ذات الأضالع المعروفة بالساعات، وكانت صومعة هائلة فيها راهب عندهم، فأمره الوليد بالنزول منها فأكبر الراهب ذلك، فأخذ الوليد بقفاه فلم يزل يدفعه حتى أنزله منها، ثم صعد الوليد على أعلى مكان في الكنيسة فوق المذبح الأكبر منها، الذي يسمونه الشاهد، وهو تمثال في أعلى الكنيسة، فقال له الرهبان: احذر الشاهد، فقال: أنا أول ما أضع فأسي في رأس الشاهد، ثم كبر وضربه فهدمه، وكان على الوليد قباء أصفر لونه سفر جلي قد غرز أذياله في المنطقة، ثم أخذ فأسا بيده فضرب بها في أعلى حجر فألقاه، فتبادر الامراء إلى الهدم، وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، وصرخت النصارى بالعويل على درج جيرون، وكانوا قد اجتمعوا هنالك، فأمر الوليد أمير الشرطة وهو أبو نائل رياح الغساني، أن يضربهم حتى يذهبوا من هنالك، ففعل ذلك، فهدم الوليد والامراء جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المعبد من المذابح والأبنية والحنايا، حتى بقي المكان صرحة مربعة، ثم شرع في بنائه بفكرة جيدة على هذه الصفة الحسنة الأنيقة، التي لم يشتهر مثلها قبلها كما سنذكره.

وقد استعمل الوليد في بناء هذا المسجد خلقا كثيرا من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك، ويقال إن الوليد بعث إلى ملك الروم يطلب منه صناعا في الرخام وغير ذلك، ليستعين بهم على عمارة هذا المسجد على ما يريد، وأرسل يتوعده لئن لم يفعل ليغزون بلاده بالجيوش، وليخربن كل كنيسة في بلاده، حتى كنيسة القدس، وهي قمامة، وكنيسة الرها، وسائر آثار الروم، فبعث ملك الروم إليه صناعا كثيرة جدا، مائتي صانع (٢)، وكتب إليه يقول: إن كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فإنه لوصمة عليك، وإن لم يكن فهمه وفهمت أنت لوصمة عليه، فلما وصل ذلك إلى الوليد أراد أن يجيب عن ذلك،


(١) في معجم البلدان: خنق.
(٢) قال المقدسي في أحسن التقاسيم ص ٧٣: أن الوليد جمع لبنائه صناعا مهرة من الشام ومصر بلغ عددهم أكثر من عشرة آلاف استمروا يعملون فيه تسع سنوات (انظر معجم البلدان).

<<  <  ج: ص:  >  >>