وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي: يا أبا أيوب! هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلاث، واستحكم فيهم البلاء؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا فوالله لا أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله، ينتظر ثواب الله. وقال غيره: خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لأصحابه: قفوا حتى آتي قبور الأحبة: فأتاهم فجعل يبكي ويدعو، إذ هتف به التراب فقال: يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الأحبة؟ قال قلت: وما فعلت بهم؟ قال: مزقت الأكفان، وأكلت اللحوم، وشدخت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ونزعت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين، والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين، والساقين من الفخذين، والفخذين من الورك، والورك من الصلب. فلما أراد أن يذهب قال له: يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى؟ قال: وما هي؟ قال: تقوى الله والعمل الصالح.
وقال مرة لرجل من جلسائه: لقد أرقت الليلة مفكرا، قال: وفيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره، وما صار إليه، لاستوحشت من قربه بعد طول الانس منك بناحيته، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام، وتخترق فيه الديدان، ويجري فيه الصديد، مع تغير الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، قال: ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه. وقال مقاتل بن حيان: صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ (وقفوهم إنهم مسؤولون)[الصافات: ٢٤] فجعل يكررها وما يستطيع أن يتجاوزها. وقالت امرأته فاطمة: ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحد أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشئ من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها.
وقال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز. وقال بعضهم: رأيته يبكي حتى بكى دما، قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ (إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) الآية، ويقرأ (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون)[الأعراف: ٥٣] ونحو هذه الآيات، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة، وقال أبو بكر الصولي: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بقول الشاعر:
فما تزود مما كان يجمعه … سوى حنوط غداة البين في خرق