يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني ذكرت منصرف الخلائق من بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشى عليه.
وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسد أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال: وهل ينتفع من المسك إلا بريحه؟ ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكراً، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية.
وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيراً بهذه الأبيات: - يرى مستكيناً وهو للقول ماقت * به عن حديث القوم ما هو شاغله وأزعجه علم عن الجهل كله * وما عالم شيئاً كمن هو جاهله عبوس عن الجهال حين يراهم * فليس له منهم خدين يهازله تذكر ما يبقى من العيش فارعوى * فأشغله عن عاجل العيش آجله
وروى ابن أبي الدنيا عن ميمون بن مهران قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وعنده سابق البربري وهو ينشده شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات: - فكم من صحيح بات للموت آمناً * أتته المنايا بغتة بعد ما هجع فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة * فراراً ولا منه بقوته امتنع فأصبح تبكيه النساء مقنعاً * ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع وقرب من لحد فصار مقيله * وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع فلا يترك الموت الغني لماله * ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع وقال رجا بن حيوة: لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد يا أمير المؤمنين! إن هذا المرائي - يعني عمر بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر نفيس ودر ثمين، في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر.
فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: بلغني أن عمر خلف جوهراً ودراً في بيتين مقفولين.
فأرسلت إليه: يا أخي ما ترك عمر من سبد ولا لبد، إلا ما في هذا المنديل.
وأرسلت إليه به، فحله فوجد فيه قميصاً غليظاً مرقوعا، ورداء قشباً، وجبةً محشوةً غليظةً واهية البطانة.
فقال يزيد للرسول: قل لها: ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين.
فأرسلت تقول له: والذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما لبيت مالك.
فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين فإذا فيه كرسي من أدم وأربع آجرات مبسوطات عند الكرسي، وقمقم.
فقال عمر بن الوليد: أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجداً مفروشاً بالحصا، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق