للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأذن له بالانصراف وَقَالَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ عَنْ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: وَفَدْتُ أَنَا وَالْأَحْوَصُ وَنُصَيْبٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بِصُحْبَتِنَا إِيَّاهُ وَمُعَاشَرَتِنَا لَهُ، لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وكل مِنَّا يَظُنُّ أَنَّهُ سَيُشْرِكُهُ فِي الْخِلَافَةِ.

فَنَحْنُ نَسِيرُ وَنَخْتَالُ فِي رِحَالِنَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى خُنَاصِرَةَ وَلَاحَتْ لَنَا أَعْلَامُهَا، تَلَقَّانَا مَسْلَمَةُ بْنُ عبد الملك فقال: ما أقدمكم؟ أو ما علمتم أن صاحبكم لا يحب الشعر ولا الشعراء؟ قَالَ: فَوَجَمْنَا لِذَلِكَ، فَأَنْزَلَنَا مَسْلَمَةُ عِنْدَهُ وَأَجْرَى عَلَيْنَا النَّفَقَاتِ وَعَلَفَ دَوَابَّنَا، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَنَا عَلَى عُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْجُمَعِ دَنَوْتُ مِنْهُ لِأَسْمَعَ خُطْبَتَهُ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: لِكُلِّ سَفَرٍ زَادٌ، فَتُزَوَّدُوا لِسَفَرِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى، وَكُونُوا كَمَنْ عَايَنَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَثَوَابِهِ فَتَرْغَبُوا وَتَرْهَبُوا، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ وَتَنْقَادُوا لِعَدُوِّكُمْ.

فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بُسِطَ أَمَلُ مَنْ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَا يُمْسِي بَعْدَ إِصْبَاحِهِ وَلَا يُصْبِحُ بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وَإِنَّمَا يَطَمْئِنُّ مَنْ وَثِقَ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُدَاوِي مِنَ الدُّنْيَا كَلْمًا إِلَّا أَصَابَهُ جَارِحٌ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ، أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَنْهَى عَنْهُ نَفْسِي فَتَخْسَرُ صَفْقَتِي وَتَبْدُو مَسْكَنَتِي فِي يَوْمَ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، ثُمَّ بَكَّى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَاضٍ نَحْبَهُ، وَارْتَجَّ الْمَسْجِدُ وَمَا حول بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ: قَالَ: فَانْصَرَفْتُ إِلَى صَاحِبَيَّ فَقُلْتُ: خد سرحاً مِنَ الشِّعْرِ غَيْرَ مَا كُنَّا نَقُولُ لِعُمَرَ وَآبَائِهِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ آخِرِيٌّ لَيْسَ بِرَجُلِ دُنْيَا.

قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لَنَا مَسْلَمَةُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ طَالَ الثَّوَاءُ وَقَلَّتِ الْفَائِدَةُ، وَتَحَدَّثَ بِجَفَائِكَ إِيَّانَا وُفُودُ الْعَرَبِ.

فَقَالَ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة: ٦١] وَقَرَأَ الْآيَةَ، فإن كنتم من هؤلاء أعطيتم وَإِلَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهَا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي مِسْكِينٌ وَعَابِرُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ؟ - يَعْنِي مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ - فَقُلْنَا: بَلَى! فَقَالَ: إنَّه لا ثواب عَلَى مَنْ هُوَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ، فَقُلْتُ: ائذن لي يا أمير المؤمنين بالإنشاد، قَالَ: نَعَمْ وَلَا تَقُلْ إِلَّا حَقًّا،

فَأَنْشَدْتُهُ قَصِيدَةً فِيهِ: وَلَيْتَ فَلَمْ تَشْتِمْ عَلِيًّا وَلَمْ تخف * بريئاً وَلَمْ تَقْبَلْ إِشَارَةَ مُجْرِمِ وَصَدَّقْتَ بِالْفِعْلِ الْمَقَالَ مَعَ الَّذِي * أَتَيْتَ فَأَمْسَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمِ إلا إنما يكفي الفتى بعد ريعه * من الأود النادي ثِقَافُ الْمُقَوِّمِ وَقَدْ لَبِسَتْ تَسْعَى إِلَيْكَ ثِيَابُهَا * تَرَاءَى لَكَ الدُّنْيَا بِكَفٍّ وَمِعْصَمِ وَتُومِضُ أَحْيَانًا بِعَيْنٍ مَرِيضَةٍ * وَتَبْسِمُ عَنْ مِثْلِ الْجُمَانِ الْمُنَظَّمِ فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما * سقتك مذوقاً من سمام وعلقم وقد كنت من أحبالها فِي مُمَنَّعٍ * وَمِنْ بَحْرِهَا فِي مُزْبِدِ الْمَوْجِ مُفْعَمِ وَمَا زِلْتَ تَوَّاقًا إِلَى كُلِّ غَايَةٍ * بَلَغْتَ بِهَا أَعْلَى الْبِنَاءِ الْمُقَدَّمِ فَلَمَّا أَتَاكَ الْمَلِكُ عَفْوًا وَلَمْ تَكُنْ * لِطَالِبِ دُنْيَا بَعْدَهُ في تكلم

<<  <  ج: ص:  >  >>