للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قوة تزاحم الْقَوْمَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِيَاضِهِمْ، فَسَقَى لَهُمَا فجعل يغترف (١) مِنَ الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ وَانْصَرَفَتَا بِغَنَمِهِمَا إِلَى أَبِيهِمَا، وَانْصَرَفَ مُوسَى فاستظل بشجرة وَقَالَ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وَاسْتَنْكَرَ أَبُوهُمَا سُرْعَةَ صُدُورِهِمَا بِغَنَمِهِمَا حُفَّلًا (٢) بِطَانًا فَقَالَ: إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا، فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ (قَالَ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ليس لفرعون ولا قومه علينا من سلطان ولسنا في مملكته فقالت إحداهما: (يا أبت استأجره إن خير من اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: ٢٧] فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ وَمَا أَمَانَتُهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ.

وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ.

ثُمَّ قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ.

فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا وَصَدَّقَهَا، وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ.

فَقَالَ لَهُ هَلْ لَكَ (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص: ٢٧] فَفَعَلَ فَكَانَتْ على نبي الله موسى ثمان سِنِينَ وَاجِبَةً، وَكَانَتِ السَّنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا.

قَالَ سَعِيدُ - هو ابن جُبَيْرٍ - فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا.

وَأَنَا يَوْمَئِذٍ لَا أَدْرِي.

فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ ثَمَانِيَةً كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَاجِبَةً، لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ لِيُنْقِصَ مِنْهَا شَيْئًا؟ وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدته الَّتِي وَعَدَهُ ; فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ.

فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ فَأَخْبَرَتْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَجَلْ وَأَوْلَى.

فَلَمَّا سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ من أمر النار والعصي وَيَدِهِ، مَا قصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ.

فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الْقَتِيلِ وَعُقْدَةِ لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هرون، يكون له ردأ وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لسانه، فأتاه الله عزوجل [سُؤْلَهُ] (٣) وَحَلَّ

عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إلى هرون فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ.

فَانْدَفَعَ مُوسَى بِعَصَاهُ حَتَّى لقى هرون.

فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَأَقَامَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمَا.

ثُمَّ أُذِنَ لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَا: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) فَقَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي القِران.

قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ، قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُرْسِلَ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ (ائْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ [حَيَّةٌ


(١) في نسخة: يغرف.
(٢) حفلا بطانا: درت ضروعها وشبعت بطونها.
(٣) سقطت من النسخ المطبوعة.
[*]

<<  <  ج: ص:  >  >>