الناس والفصل، جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه، فأمر الحاجب فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه، فادعت عليه بأنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته، فزجرها بعض الحاضرين فقال له المأمون: اسكت فإن الحق أنطقها والباطل أسكته، ثم حكم لها بحقها وأغرم ابنه لها عشرة آلاف درهم.
وكتب إلى بعض الأمراء: ليس المروءة أن يكون بيتك من ذهب وفضة وغريمك عار، وجارك طاو والفقير جائع. ووقف رجل بين يديه فقال له المأمون: والله لأقتلنك. فقال: يا أمير المؤمنين تأن علي فإن الرفق نصف العفو، فقال: ويلك ويحك! قد حلفت لأقتلنك، فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن تلق الله حانثا خير من أن تلقاه قاتلا. فعفا عنه. وكان يقول: ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم. وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه: ترون هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين - يقول ذلك وهو لا يشعر بمكان المأمون - فجعل المأمون يتبسم ويقول: كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل القدر؟ وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها من اللباب وغيره، فقال له المأمون: أما شبعت يا شيخ؟ فقال: بلى، حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله ﷺ قال:" من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر ". قال فأمر له المأمون بألف دينار ..
وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوما لمحمد بن عباد بن المهلب: يا أبا عبد الله قد أعطيتك ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطيك دينارا. فقال: يا أمير المؤمنين إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود. فقال: أحسنت يا أبا عبد الله! أعطوه ألف ألف وألف ألف وألف ألف. ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء. فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب، ومزودا فيه أشنان جيد، وكتب إليه: إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته. وكتب إليه:
بضاعتي تقصر عن همتي … وهمتي تقصر عن مالي
فالملح والأشنان يا سيدي … أحسن ما يهديه أمثالي
قال: فدخل بها الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك وأمر بالزودين ففرغا وملئا دنانير وبعث بهما إلى ذلك الأديب. وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني ودخل بعض الشعراء فقال يهنيه بولده: