فيمن يدّعي الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم (ولئن سألتهم ليقولون إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم) الآية [التَّوْبَةِ: ٦٥] .
وَقَدْ كَانَ أَبُو عِيسَى الْوَرَّاقُ مُصَاحِبًا لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ قَبَّحَهُمَا اللَّهُ، فَلَمَّا عَلِمَ النَّاسُ بِأَمْرِهِمَا طَلَبَ السُّلْطَانُ أَبَا عِيسَى فَأُودِعَ السِّجْنَ حتى مات.
وأما ابن الراوندي فهرب فلجأ إِلَى ابْنِ لَاوِي الْيَهُودِيِّ، وَصَنَّفَ لَهُ فِي مدة مقامه عنده كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ " الدَّامِغَ لِلْقُرْآنِ " فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى مَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ.
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: وَرَأَيْتُ فِي كِتَابٍ مُحَقَّقٍ أَنَّهُ عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً مَعَ مَا انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ وَلَا رَحِمَ عِظَامَهُ.
وَقَدْ ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يخرجه بشئ، وَلَا كَأَنَّ الْكَلْبَ أَكَلَ لَهُ عَجِينًا، عَلَى عَادَتِهِ فِي الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَالشُّعَرَاءُ يُطِيلُ تَرَاجِمَهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ يَذْكُرُ لَهُمْ تَرْجَمَةً يَسِيرَةً، وَالزَّنَادِقَةُ يَتْرُكُ ذكر زندقتهم.
وأرخ ابن خلكان تاريخ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا فَاحِشًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَوَفَّى فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ.
[وفيها توفي]
الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ أَبُو الْقَاسِمِ الخزاز، ويقال له الْقَوَارِيرِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ نَهَاوَنْدَ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بها.
وسمع الحديث من الحسين بْنِ عَرَفَةَ.
وَتَفَقَّهَ بِأَبَى ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْكَلْبِيٍّ، وَكَانَ يُفْتِي بِحَضْرَتِهِ وَعُمُرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاشْتُهِرَ بصحبة الحارث المحاسبي، وخاله سري السقطي، ولازم التعبد، ففتح الله عليه بسبب ذلك علوماً كثيرة، وتكلم على طريقة الصوفية.
وكان ودده في كل يوم ثلثمائة رَكْعَةٍ، وَثَلَاثِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ.
وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لا يأوي إلى فراش، ففتح عليه من العلم النَّافع والعمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه، وكان يعرف سائر فنون العلم،
وإذا أخذ فيها لم يكن له فيها وقفة ولا كبوة، حتى كان يقول في المسألة الواحدة وجوهاً كثيرة لم تخطر للعلماء ببال، وكذلك في التصوف وغيره.
ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويتلوا القرآن، فقيل له: لو رفقت بنفسك في مثل هذا الحال؟ فقال: لا أَحَدٌ أَحْوَجَ إِلَى ذَلِكَ مِنِّي الْآنَ، وَهَذَا أوان طي صحيفتي.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَيُقَالُ: كَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وكان ابن سريح يصحبه ويلازمه، وربما استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال، ويقال: إنه سأله مرة عن مسألة.
فأجابه فيها بجوابات كثيرة، فقال: يا أبا القاسم ألم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت، فأعدها عليّ.
فأعادها بجوابات أخرى كثيرة.
فقال: والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده