للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مرات، وقطعت يده ولسانه في آخر عمره، وحبس فكان يستقي الماء بيده اليسرى وأسنانه، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وهي صحيحة. وقد كان خطه من أقوى الخطوط، كما هو مشهور عنه وقد بنى له دارا في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقا من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشار به المنجمون. فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرا حتى خربت وصارت كوما، كما ذكرنا ذلك، وذكرنا ما كتبوا على جدارانها. وقد كان له بستان كبير جدا، عدة أجربة - أي فدادين - وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القماري والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شئ كثير، وفي أرضه من الغزلان وبقر الوحش والنعام وغير ذلك شئ كثيرا أيضا. ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء الزوال. وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء الغرور. وقد أنشد فيه بعض الشعراء حين بنى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا:

قل لابن مقلة: لا تكن عجلا … واصبر، فإنك في أضغاث أحلام

تبني بأحجر دور الناس مجتهدا … دارا ستهدم قنصا بعد أيام

ما زلت تختار سعد المشتري لها … فكم نحوس به من نحس بهرام

إن القران وبطليموس ما اجتمعا … في حال نقض ولا في حال ابرام

فعزل ابن مقلة عن الوزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلي الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه. وقاسى جهدا جهيدا بعد ما ذاق عيشا رغيدا. ومن شعره في يده:

ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة (١) … بأيمانهم، فبانت يميني

بعت ديني لهم بدنياي حتى … حرموني دنياهم بعد ديني

ولقد حفظت ما استطعت بجهدي … حفظ أرواحهم، فما حفظوني

ليس بعد اليمين لذة عيش … يا حياتي بانت يميني فبيني

وكان يبكي على يده كثيرا ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم ينشد:

إذا ما مات بعضك فابك بعضا … فإن البعض من بعض قريب

وقد مات عفا الله عنه في محبسه هذا ودفن في دار السلطان، ثم سأل ولده أبو الحسين أن يحول


(١) البيت في الوافي ٤/ ١١٠ ووفيات الأعيان ٥/ ١١٦، وفيهما سقطت " للحياة ".

<<  <  ج: ص:  >  >>