فذكر ذلك لمن حضره، وقال لهم والله لموت جميع أولادي أهون علي من تخريب حجر واحد منها، ولكن إذا كان خرابها فيه مصلحة للمسلمين فلا بأس به، ثم طلب الولاة وأمرهم بتخريب البلد سريعا، قبل وصول العدو إليها، فشرع الناس في خرابه، وأهله ومن حضره يتباكون على حسنه وطيب مقيله، وكثرة زروعه وثماره، ونضارة أنهاره وأزهاره، وكثرة رخامه وحسن بنائه. وألقيت النار في سقوفه وأتلف ما فيه من الغلات التي لا يمكن تحويلها، ولا نقلها، ولم يزل الخراب والحريق فيه من جمادى الآخرة إلى سلخ شعبان من هذه السنة.
ثم رحل السلطان منها في ثاني رمضان وقد تركها قاعا صفصفا ليس فيها معلمة لاحد، ثم اجتاز بالرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد، وزار بيت المقدس وعاد إلى المخيم سريعا، وبعث ملك الانكليز إلى السلطان إن الامر قد طال وهلك الفرنج والمسلمون، وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها: رد الصليب وبلاد الساحل وبيت المقدس، لا نرجع عن هذه الثلاثة ومنا عين تطرف، فأرسل إليه السلطان أشد جواب، وأسد مقال (١)، فعزمت الفرنج على قصد بيت المقدس، فتقدم السلطان بجيشه إلى القدس وسكن في دار القساقس قريبا من قمامة، في ذي القعدة، وشرع في تحصين البلد، وتعميق خنادقه، وعمل فيه بنفسه وأولاده، وعمل فيه الامراء والقضاة والعلماء والصالحون، وكان وقتا مشهودا، واليزك حول البلد من ناحية الفرنج وفي كل وقت يستظهرون على الفرنج ويقتلون ويأسرون ويغنمون، ولله الحمد والمنة. وانقضت هذه السنة والامر على ذلك. وفيها على ما ذكره العماد تولى القضاء محيي الدين محمد بن الزكي بدمشق. وفيها عدى أمير مكة داود بن عيسى بن فليتة بن هاشم بن محمد بن أبي هاشم الحسني، فأخذ أموال الكعبة حتى انتزع طوقا من فضة كان على دائرة الحجر الأسود، كان قد لم شعثه حين ضربه ذلك القرمطي بالدبوس، فلما بلغ السلطان خبره من الحجيج عزله وولى أخاه بكيرا، ونقض القلعة التي كان بناها أخوه على أبي قبيس، وأقام داود بنخلة حتى توفي بها سنة سبع وثمانين.
وفيها توفي من الأعيان …
(١) قال ابن الأثير في تاريخه: أن ريتشارد راسل العادل أخي صلاح الدين على أن يزوج الملك أخته جوانا من العادل ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك انكلتار; وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه، قال رنسيمان: أن ريتشارد قدم عروضه الجديدة بعد بضعة أيام من تقديم مقترحاته الأولى ورفض صلاح الدين لها; وزاد عما أورده ابن الأثير: وأن يتيسر للمسيحيين التردد إلى بيت المقدس; وإعادة صليب الصلبوت، وإطلاق سراح الاسرى من الجانبين. فوافق صلاح الدين وأبدى سروره (الكامل ١٢/ ٧٢ تاريخ أبي الفداء ٣/ ٨٠ تاريخ الحروب الصليبية ٣/ ١١٥ - ١١٦) انظر الروضتين ٢/ ٤٥ - ٥٠.