للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكلما وفد أحد من رؤساء الفرنج للزيارة فعل معه غاية الاكرام، تأليفا لقلوبهم، ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القمامة متنكرا، ويحضر سماط السلطان فيمن حضر من جمهورهم، بحيث لا يرى. والسلطان لا يعلم ذلك جملة ولا تفصيلا، ولهذا كان يعاملهم بالاكرام، ويريهم صفحا جميلا، وبرأ جزيلا.

فلما كان في خامس شوال ركب السلطان في العساكر فبرز من القدس قاصدا دمشق، واستناب على القدس عز الدين جورديك، وعلى قضائها بهاء الدين بن يوسف بن رافع بن تميم الشافعي، فاجتاز على وادي الجيب وبات على بركة الداوية، ثم أصبح في نابلس فنظر في أحوالها، ثم ترحل عنها، فجعل يمر بالقلاع والحصون والبلدان فينظر في أحوالها ويكشف المظالم عنها، وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية فأكرمه وأحسن إليه، وأطلق له أموالا جزيلة وخلعا، وكان العماد الكاتب في صحبته، فأخبر عن منازله منزلة منزلة إلى أن قال: وعبر يوم الاثنين عين الحر إلى مرج بيوس، وقد زال البوس، وهناك وفد عليه أعيان دمشق وأماثلها، ونزل يوم الثلاثاء على العرادة، وجاءه هناك التحف والمتلقون على العادة، وأصبحنا يوم الأربعاء سادس عشر (١) شوال بكرة بجنة دمشق داخلين، بسلام آمنين، وكانت غيبة السلطان عنها أربع سنين، فأخرجت دمشق أثقالها، وأبرزت نساءها وأطفالها ورجالها، وكان يوم الزينة، وخرج أكثر أهل المدينة، واجتمع أولاده الكبار والصغار، وقدم عليه رسل الملوك من سائر الأمصار، وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل، والعمل بالاحسان والفضل. ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها:

وأبيها لولا تغزل عينها … لما قلت في التغزل شعرا

ولكانت مدائح الملك الناصر … وإلى ما فيه أعمل فكرا

ملك طبق الممالك بالعدل … مثلما أوسع البرية برا

فيحل الأعياد صوما وفطرا … ويلقى الهنا برا وبحرا

يأمر بالطاعات لله إن … أضحى مليك على المناهي مصرا

نلت ما تسعى من الدين والدنيا … فتيها على الملوك وفخرا

قد جمعت المجدين أصلا وفرعا … وملكت الدارين دنيا وأخرى

ومما وقع في هذه السنة من الحوادث غزوة عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين ملكها السبكتكيني وبين ملك الهند وأصحابه الذين كانوا قد كسروه في سنة ثلاث وثمانين، فأظفره الله بهم


(١) كذا بالأصل وابن شداد في سيرته ص ٢٣٩ وفي الكامل ١/ ٨٧ وتاريخ أبن خلدون ٥/ ٣٣٠: خامس وعشرين.
وفي تاريخ أبي الفداء ٣/ ٨٣: لخمس بقين من شوال يوم الأربعاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>