للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ وأناب، عَلَى أَنْ يَبْذُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنِ الْمَرْأَةِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَصَغِيرَةٍ دِينَارَيْنِ (١) ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَسِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون مِنْهَا إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَهِيَ مَدِينَةُ صُورَ.

فَكُتِبَ الصلح بذلك، وأن من لم يَبْذُلُ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ أَسِيرٌ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ أُسِرَ بِهَذَا الشرط ستة عشر ألف أسير (٢) مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَوِلْدَانٍ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ وَالْمُسْلِمُونَ البلد يوم الجمعة قبل وَقْتِ الصَّلَاةِ بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ (٣) مِنْ رَجَبٍ.

قَالَ الْعِمَادُ: وَهِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.

قال أَبُو شَامَةَ: وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْإِسْرَاءِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا أُقِيمَتْ يَوْمَئِذٍ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ خطب بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إِقَامَتُهَا يَوْمَئِذٍ لِضِيقِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتْ فِي الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْقُرَشِيَّ بْنَ الزَّكِيِّ كَمَا سيأتي قريباً.

ولكن نظفوا المسجد الأقصى مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالْخَنَازِيرِ، وخربت دور الداوية

وَكَانُوا قَدْ بَنَوْهَا غَرْبِيَّ الْمِحْرَابِ الْكَبِيرِ، وَاتَّخَذُوا المحراب مشتاً لعنهم الله، فنظف مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأُعِيدَ إِلَى مَا كَانَ عليه في الأيام الإسلامية، وَغُسِلَتِ الصَّخْرَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَأُعِيدَ غَسْلُهَا بِمَاءِ الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عَنْ قُبَّتِهَا، وَعَادَتْ إِلَى حُرْمَتِهَا، وَقَدْ كَانَ الفرنج قلعوا منها قطعاً فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها.

ثم قبض مِنَ الْفِرِنْجِ مَا كَانُوا بَذَلُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ من الأموال، وأطلق السلطان خلقاً منهم بنات الملوك بن معهن من النساء والصبيان وَالرِّجَالِ، وَوَقَعَتِ الْمُسَامَحَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَشُفِعَ في أناس كثير فعفا عَنْهُمْ، وَفَرَّقَ السُّلْطَانُ جَمِيعَ مَا قَبَضَ مِنْهُمْ من الذهب في العسكر، ولم يأخذ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُقْتَنَى وَيُدَّخَرُ، وَكَانَ رَحِمَهُ الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً.

أَوَّلِ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ فَتْحِهِ لما تطهر بيت الْمُقَدَّسُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ وَالنَّوَاقِيسِ والرهبان والقساقس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من


(١) في تاريخ الحروب الصليبة: ٢ / ٧٥٢: ودينار للطفل.
(٢) كذا بالاصل، وابن الاثير وقال: هذا بالضبط واليقين.
وقال ابن العبري: خمسة آلاف.
(٣) في تاريخ ابن خلدون ٥ / ٣١٠: يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>