للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُعْلِمُونَهُ بِمَا وَقَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُسْرِعُوا الْخُرُوجَ مِنَ الْبَلَدِ فِي الْبَحْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُوا عن هذه الليلة، ولا يَبْقَى بِهَا مُسْلِمٌ، فَتَشَاغَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ بها لجمع الأمتعة والأسلحة، وتأخروا عن الخروج تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَمَا أَصْبَحَ الْخَبَرُ إِلَّا عِنْدَ الْفِرِنْجِ مِنْ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ سَمِعَا بِمَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ، فَهَرَبَا إِلَى قَوْمِهِمَا فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، فَاحْتَفَظُوا عَلَى الْبَحْرِ احْتِفَاظًا عَظِيمًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ، ولا خرج منها شئ بالكلية، وهذا المملوكان كانا أسيرين قد أسرهما السلطان من أولاد الفرنج، وعز السُّلْطَانُ عَلَى كَبْسِ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا لَا نخاطر بعسكر المسلمين، فَلَمَّا أَصْبَحَ بَعَثَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ عِدَّتَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى الَّذِينَ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الفرنج، ويزيدهم صليب الصلبوت، فأبوا إلا أن يطلق لهم كل أسير تحت يده، ويطلق لهم جيمع الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، فأبى ذلك، وتردد الْمُرَاسَلَاتُ فِي ذَلِكَ، وَالْحِصَارُ يَتَزَايَدُ عَلَى أَسْوَارِ البلد.

وقد تهدمت منه ثُلَمٌ كَثِيرَةٌ، وَأَعَادَ الْمُسْلِمُونَ كَثِيرًا مِنْهَا، وَسَدُّوا ثَغْرَ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ بِنُحُورِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَصَبَرُوا صبراً عظيماً، وصابروا العدو، ثم كان آخر الأمر وصولهم إلى درجة الشهادة، وَقَدْ كَتَبُوا إِلَى السُّلْطَانِ فِي

آخِرِ أَمْرِهِمْ يقولون له: يَا مَوْلَانَا لَا تَخْضَعْ لِهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينِ، الَّذِينَ قد أبوا عليك الإجابة إلى ما دعوتهم فينا، فإنا قد بايعنا الله عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى نُقْتَلَ عَنْ آخِرِنَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.

فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السابع (١) مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، مَا شعر الناس إلا وأعلام الكفار قد ارتفعت، وصلبانهم ونارهم عَلَى أَسْوَارِ الْبَلَدِ، وَصَاحَ الْفِرِنْجُ صَيْحَةً وَاحِدَةً، فعظمت عند ذلك الْمُصِيبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ حُزْنُ الْمُوَحِّدِينَ، وَانْحَصَرَ كلام النَّاسِ فِي إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَغَشِيَ النَّاسَ بَهْتَةٌ عَظِيمَةٌ، وَحَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، وَوَقَعَ في عسكر السلطان الصياح والعويل، وَدَخَلَ الْمَرْكِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِمْ في صور بهدايا فأهداها إلى الملوك، فدخل في هذا اليوم عكا بأربعة أعلام الملوك فنصبها في البلد، واحداً على المأذنة يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخَرَ عَلَى الْقَلْعَةِ، وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الدَّاوِيَّةِ، وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الْقِتَالِ، عِوَضًا عَنْ أَعْلَامِ السُّلْطَانِ، وَتَحَيَّزَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ بِهَا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَلَدِ مُعْتَقَلِينَ، مُحْتَاطٌ بِهِمْ مضيق عليهم، وقد أسروا النِّسَاءُ وَالْأَبْنَاءُ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَقُيِّدَتِ الْأَبْطَالُ وَأُهِينَ الرِّجَالُ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حال (٢) .


(١) في تاريخ أبي الفداء: سابع عشر جمادى الآخرة ظهر يوم الجمعة (انظر الكامل ١٢ / ٦٦) .
(٢) قال ابن الأثير في تاريخه أنه: لما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضرا خرج إلى الفرنج، وقرر معهم تسليم البلد، وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس (في ابن خلدون: المركيش) صاحب صور فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له عليه وأن تكون مدة تحصيل المال والاسرى إلى شهرين (١٢ / ٦٧ ابن خلدون ٥ / ٣٢٥ ابن العبري في مختصر الدول ص ٢٢٢) .
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>