للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تسع وثمانين وخمسمائة

فيها كانت وفاة السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّين يُوسُفُ بْنُ أيوب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ، وَخَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ العادل إِلَى الصَّيْدِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَالُ بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يَسِيرُ هُوَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَيَبْعَثُ أَخَاهُ إلى بغداد، فَإِذَا فَرَغَا مِنْ شَأْنِهِمَا سَارَا جَمِيعًا إِلَى بلاد أذربيجان، بلاد الْعَجَمِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا أَحَدٌ يُمَانِعُ عَنْهَا، فلما قدم الحجيج فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِي عَشَرَ صَفَرٍ خَرَجَ السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الإسلام، صاحب اليمن، فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ مَا رَكِبَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ اعْتَرَاهُ حُمَّى

صَفْرَاوِيَّةٌ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَابْنُهُ الْأَفْضَلُ، فَأَخَذَ يَشْكُو إِلَيْهِمْ كَثْرَةَ قَلَقِهِ الْبَارِحَةَ، وَطَابَ لَهُ الْحَدِيثُ، وَطَالَ مَجْلِسُهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَاسْتَمَرَّ، وَقَصَدَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي الْيَوْمِ الرابع، ثم اعتراه يُبْسٌ وَحَصَلَ لَهُ عَرَقٌ شَدِيدٌ بِحَيْثُ نَفَذَ إلى الأرض، ثم قوي اليبس فأحضر الأمراء الْأَكَابِرِ فَبُويِعَ لِوَلَدِهِ الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وكان نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الضَّعْفِ الشَّدِيدِ، وَغَيْبُوبَةُ الذِّهْنِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَقَاضِي الْبَلَدِ ابْنُ الزَّكِيِّ، ثم اشتد به الْحَالُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَاسْتَدْعَى الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ إِمَامَ الْكَلَّاسَةِ لِيَبِيتَ عِنْدَهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ إِذَا جَدَّ بِهِ الْأَمْرُ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ وهو في الغمرات فَقَرَأَ (هُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [الحشر: ٢٢] فَقَالَ: وَهُوَ كَذَلِكَ صَحِيحٌ.

فَلَمَّا أَذَّنَ الصُّبْحُ جَاءَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَلَمَّا قَرَأَ الْقَارِئُ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت) [التوبة: ١٢٩] تَبَسَّمَ وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَأَسْلَمَ رُوحَهُ إِلَى رَبِّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>